خلاصة المشهد الذي انتهت اليه قضية «التهرب الضريبي» في فصلها الاول ان لا احد فوق القانون، وان لدينا من التشريعات - حين تتوفر الارادة السياسية - ما يكفي للردع والمحاسبة.. اضف الى ذلك ان الذين تدور حولهم شبهات التورط، لم يكونوا مجرد اشخاص سقطوا في امتحان المسؤولية، ولا حتى ضحايا لاكبر طامتين تصيبان المجتمع والافراد: الفساد المالي والفساد السياسي، وانما كانت محاكمة لقيم ومفاهيم غريبة تسربت الينا، وكادت ان تشد اليها نخبا وافرادا، تثاقلوا الى الارض، بحثا عن مكسب سريع،، واستمرأوا خداع الناس بما يملكونه من مواهب ونفوذ، دون ان ينتبهوا الى العواقب، او ان يدركوا ان ساعة الغفلة - مهما امتدت - لا يمكن ان تطول.
آخر ما افكر به ان اكتب عن تفاصيل القضية التي شغلت الناس وملأت اخبارها ومداولاتها المواقع الخبارية، فيما ما يزال كثير من «اسرارها» قيد الكتمان، لكنني استأذن القارىء الكريم بتحرير جملة من الملاحظات على هامش المسألة، وهي ملاحظات تتعلق بالمناخات والمضامين اكثر مما تتعلق بالاشخاص والاجراءات والقرارات.
الملاحظة الاولى هي أن مجتمعنا تعرض في السنوات الماضية لاصابات وتكسرات بالغة في منظومته القيمية والاجتماعية، كان سببها الاول نشوء طبقة جديدة وجدت ان بوسعها ان تفعل ما تريد، اذا ما اجتمع لديها السلطة والمال، فتحالفت على حساب كل شيء، ونجحت في اقناع الناس - او الضغط عليهم لا فرق - في تغيير صورة المشهد الاجتماعي، وربطه بمفاهيم واعتبارات جديدة، طردت ما الفناه من نماذج تمجد النظافة والشهامة والاستقامة، لتحتفي بنماذج لم يسبق لمجتمعنا ان احترمها، سواء تعلقت بأشخاص طاردتهم تهم الكسب غير المشروع، او بآخرين امتازوا بالملق والشطارة، او ثبت انهم غير مؤهلين لتقدم صفوف الناس.
القضية الاخيرة، لم تتوقف عند كشف هذين النموذجين، نموذج « الفرهود» ونموذج «المسؤول بلا حدود»، ولكنها نجحت في تجريدهما مما اكتسباه من عناصر القبول وهالة الاستجابة - ان لم نقل الاحتفاء -، فلم يعد بوسع الشباب الذين اندهشوا بنموذج الشاطر الفهلوي، والتاجر العبقري، وحلموا ان يكونوا من اصحاب الملايين «بضربة» واحدة، ان يستمروا في دهشتهم واحلامهم، بعدما تبين ان نهاية «اكسب واهرب» الفضيحة والسجن، وان ما يمكن ان يحصل عليه المرء من اموال حرام لا تساوي لحظة اهانة يستشعرها من اقرب الناس اليه او من مجتمعه واصدقائه.
كما لم يعد بوسع المسؤول الذي طبع « نموذج» الرجل النزيه بلا نقاش، او روّج لمصطلحات «لا اريكم الا ما ارى» او اختبأ خلف كلاشيهات المصلحة الوطنية التي لم تتجاوز مصلحته الخاصة، لم يعد بوسعه ان يطمئن المعجبين بنهجه واسلوبه، ليقتفوا اثره، او يعيدوا تجربته، بعدما انكشف المستور، وتحررت المصطلحات من غبشها، وتجردت الاسماء امام سلطة القانون والعدالة من كل دعوة مغشوشة.
لقد سقط النموذجان في امتحان الانكشاف واقتراب المساءلة، ولكن هل سقطا في الواقع وفي قناعات الناس، وهل يمكن لاحدنا ان يطمئن - اليوم - الى ان ما تفرزه هذه القيم التي وفدت الينا، بنماذجها الممسوخة قد انتهى الى غير عودة، ام ان ثمة ما نحتاجه لاجتثاث هذه القيم وتعريتها وتجريدها من قداستها، ثم اعادة الاعتبار الى ما ألفناه من قيم النظافة والاستقامة، والاحتفاء برموزهما الذين ما يزال بعضنا يتذكر اسماءهم، او بعضهم على الاقل.
غدا نكمل ان شاء الله.