للأسف، وفي السياق المحلي، تُخرج الانتخابات سواء كانت نيابية أو بلدية أسوأ ما في الناس وتجذّر خلافاتهم! وهذا بالطبع نتيجة حتمية لتظافر مجموعة من العوامل؛ أهمها غياب البرامج الانتخابية الوطنية التي تؤطر مطالب المواطنين وتدافع عن مصالحهم، وواحدة من جملة سيئات قانون الصوت الواحد، التي جذّرت ثقافة الانحياز للهويات الفرعية وروابط الدم، ووضعت المواطن أمام جملة من الخيارات أحلاها مرّ.
وليس المقصود هنا التقليل من أهمية روابط الدم في سياق التكافل الاجتماعي، بل تحديدها في السياق السياسي ويمكن العودة هنا إلى دراسة تحت عنوان "القبيلة والديمقراطية: حالة العراق الملكي 1921-1958" للباحث عبد العزيز الحيص، يكتب فيها "أنّ القبيلة ككيان تقليدي ومؤثّر اجتماعياً لا يجب أن تدخل العملية السياسية والمدنيّة الحديثة كـ"قبيلة"، باعتبار أن التكتّل القبلي قادرٌ على التحشيد والتأثير في قطاعات واسعة من الشّعب وتغيير خريطة القوى على أسس غير ديمقراطية، مما يعطّل الممارسة الديمقراطية ويُبعدها عن تحقيق أهدافها".
وهذا ما ثبت في الواقع العملي محلياً حيث حالة اللاتسيس في المجتمع والانحياز للهوية الفرعية يعني بالضرورة ممارسة الإقصاء بأشكاله المختلفة؛ إما على أسس عشائرية أو طائفية أو إقليمية أو مناطقية، حيث أن "الآخر" ضمن هذا الطرح هو كلّ من ليس "منّا" وتعطّلت بذلك معظم المشاريع الوطنية الجامعة في دوامة "من نحن؟" "ومن هم؟ "وماذا يريدون؟".
وجاءت كلفة هذا التعطل باهظة؛ حالة من الإحباط العام والاحتقان غياب تام للثقة من قبل المواطن في حكومته ومؤسساته وقد تجلّى ذلك في فقدان مجلس النواب ثقله تدريجياً نتيجة فقدان ثقة الناس بقدرتها على إحداث تغيير، إما بسبب تحالفات المصالح داخل القبة على حساب المصلحة العامة أو غلبة أصحاب المال السياسي على التمثيل الحزبي، وغياب البرامج الوطنية والعمل المشترك.
وبالمقابل، على الدولة أن تؤمن أن هناك شركاء لها على الأرض قادرين على حمل المشاريع الوطنية الجامعة بما يملكونه من أدوات وخبرات فنية ومهنية، وقدرة على تطوير برامج بديلة للسياسات المطروحة وتزويد صانع القرار بالمعلومات ووجهات النظر الداعمة أو الرافضة للقضايا التي تثير الرأي العام.
هؤلاء الشركاء متواجدون في كلّ مكان من قوى مدنية ونقابات مهنية ومؤسسات مجتمع مدني وأكاديميين وتكنوقراط، بشرط أن تكسب هذه القوى ثقة المواطنين بوضع منظومة قيمية لعملها وتغليبها المصلحة العامة على المصلحة الشخصية.
كما ولابد أن تمتلك هذه القوى قناعة راسخة بعدم جدوى العمل بشكلٍ منفرد، وبأهمية بناء التحالفات كخيار تكتيكي أكثر فاعلية للتأثير في السياسات العامة. نتفهم أن التعاون ليس مفضلاً عند الفاعلين السياسيين بشكل عام، ونتفهّم تخوفهم من أن يعود هذا التعاون بالفائدة على مجموعة معينة دون غيرها، وأن يتم تغليب المصلحة الخاصة على العامة، وجميع هذه المخاوف مشروعة ولكن بمكن تجاوزها عن طريق وضع أهداف مشتركة والاستمرار بالتشاور والتنسيق والالتزام بعدم احتكار المعلومة واستخدام خطاب واحد جامع.
المعضلة التي ستواجه المرشحين اليوم وبغض النظر عن توجّهاتهم هي إقناع الناخب في المشاركة، بعد أن دخل في حالة نفسية من "اللاجدوى"، ولسان حاله يقول "الكل متآمر والكل يعمل لخدمة مصالحه الشخصية".
أمام المرشحين اليوم مهمة شاقة في تقديم الضمانات واثبات حسن النوايا اللازمة لإقناع الناخب في المشاركة، وهذا يتطلب وقتاً وجهداً عظيمين. فكما تقول الكاتبة آن لاندرز "غالباً ما تأتي الفرص متنكرة بالعمل الشاق فيفوتها معظم الناس!".
المشاركة في العملية الانتخابية اليوم ليست ترفاً سياسياً أو تأدية لواجب اجتماعي فهي أصل التشاركية في العملية الديمقراطية و ضمانة التمثيل السياسي للمواطن في صناعة القرار وهي فرصة لمن يطالب بالتغيير أن يبدأ من موقعه.