لم تشهد قارة في العالم قتلاً ودماراً شاملاً مثلما شهدته أوروبا في القرن الماضي. على مدى نحو ثلاثين عاماً، وعبر حربين عالميتين، ومزيدٍ من مشاعر الحقد والكراهية والاستخدام الكارثي للقوة، قُتل الملايين، ودُمّرت المدن، وتوقفت عجلة الاقتصاد، وانتشرت المجاعات والأمراض.
أمام أحفاد المتحاربين، الذين صفقوا وقوفاً وطويلاً احتراماً لضيفهم الكبير، وقف جلالة الملك عبد الله الثاني أمس مخاطباً برلمانيي أوروبا في ستراسبورغ، ليُذكّرهم بالإنجاز الحضاري الأوروبي الكبير، عندما استبدل آباؤهم الحرب بالسلام، والحقد بالتسامح، فنهضت أوروبا الحضارية وأشعلت النور بعد ليلها الطويل، الذي امتد حتى منتصف القرن الماضي تقريباً.
الخليفة الراشدي العادل عمر بن الخطاب كان هناك أيضاً. جلالة الملك ذكّر الأوروبيين بالعهدة العمرية لمسيحيي القدس، ووصاياه لجنده بألا يقتلوا كاهناً، ولا طفلاً، ولا امرأة، ولا شيخاً. هي العهدة التي ورثها الهاشميون في رعايتهم للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف. هي المثال على العيش المشترك على مدى 14 قرناً في مهد السيد المسيح.
صوت جلالة الملك مسموع في العالم، لأنه يمثل صوت الحكمة والحق والاعتدال. أوروبا تستمع لجلالته جيداً، وتحترم مواقفه المستندة إلى شرعية العدالة والحقوق المشروعة والمبادئ الإنسانية والأخلاقية. صوت قائدٍ عربيٍّ مسلمٍ إنسانيٍّ موثوقٍ عالمياً.
القوة لا تُنشئ حقاً، ولا سلاماً لأحد، بدليل ما شهدته أوروبا في القرن الماضي، وبدليل ما تشهده منطقتنا اليوم.
أما المبادئ الأخلاقية والإنسانية، فقد أصبحت على المحك اليوم، بعد أن تجاوزت إسرائيل كل الخطوط الحمراء، فاستهدفت المنشآت الصحية في غزة 700 مرة، وأصبح قتل الفلسطينيين وتجويعهم أمراً اعتيادياً أمام المجتمع الدولي: أيُّ مجتمعٍ عالميٍّ لا يتحرك ضميره أمام كل هذه الجرائم الوحشية؟
القيم الإنسانية المشتركة على المحك حين ينظر العالم إلى الجرائم الإسرائيلية من دون أيّ حراكٍ مؤثرٍ في مسار الأحداث، وحين تنكر إسرائيل حقوق الفلسطيني، بدءاً من حقهم في الحياة، وانتهاءً بحقهم في تقرير مصيرهم، وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني، وعاصمتها القدس الشريف.
يراهن جلالته على الدور الأوروبي، رغم تراجع هذا الدور مؤخراً، في العودة إلى تبنّي القيم الأخلاقية والقيم المشتركة للإنسانية.
أوروبا هي الجار الأقرب للشرق الأوسط، والأعرف بشؤونه، رغم الانحياز الغربي، وبشكل عام، لإسرائيل.
دقّ جلالته ناقوس الخطر في ستراسبورغ أمس، وكعادته في الاستشراف، فقد حذّر من تجاوز الانفلات حدود العالم كله انطلاقاً من منطقتنا... عندما يفقد العالم قيمه، فإنه يفقد التمييز بين الحق والباطل.
بعد الحرب العالمية الثانية، والدمار الشامل الذي انتهت إليه باستخدام السلاح النووي، أنشأ المجتمع الدولي هيئة الأمم المتحدة لتكون مظلة للسلام والعدل الدوليين.
في ستراسبورغ، طرح جلالة الملك السؤال بوضوح عمّا تبقى من العدل والسلام وحقوق الإنسان في عالمٍ يسوده منطق القوة فحسب.