الدكتور محمد المعاقبة
ترفض الحقيقة الجغرافية أن يكون النهر بضفة واحدة، إلا أن حقائق التاريخ، في الحال الأردنية الفلسطينية، تؤكد أن نهر الأردن الفاصل بين حُجرتي القلب كان على الدوام نهرا بضفة واحدة.
هذه التوأمة التي فرضتها مواضعات التاريخ والجغرافيا والعرق واللغة والدين والمصير، تجعل من الدفاع عن فلسطين وشعبها مصلحة وطنية أردنية عليا.
كيف لا؟ والدم واحد.. والهمّ واحد.. والعدو واحد...
إن القصف البربري الوحشي الذي يتعرض له شعبنا العربي الفلسطيني المقاوم في غزة يعيد إلى الأذهان حقبة من التاريخ اللا إنساني لبعض الكيانات التي كانت تمارس القتل من أجل القتل، لا يردعها وازعٌ من أخلاق، ولا التزام بمبادئ شرعية دولية أو قانون إنساني عام.
والأردن كعادته، لم يكن يوما إلا منحازا لفلسطين وأهلها، قضيته المركزية وعنوان شرعيته القومية والدينية والتاريخية، وهذا الانحياز انحياز للإنسانية في ضمير الأردنيين ودولتهم، وإيمان مطلق بأن الحياد فعلٌ لا أخلاقي حين تُضرَب الإنسانية في مقتل، ومخطئٌ مَن يظن أن الأردن يدافع بذلك عن فلسطين وحدها، إنه يدافع عن الحق العربي كله في الأرض والوجود والسلام.
لقد التقطت عمّان الإشارة، واستشعرت الخطر الذي يهدد المنطقة برمتها، ووقفت شعبيا ورسميا في وجه المخططات التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية على حساب أصحاب الحقوق وعلى حساب أراضيهم.
بات جليا كيف أثمرت جهود جلالة الملك والملكة في إحداث تغيير جوهري في الرأي العام الدولي، وما الجولات المكوكية التي يقوم بها الملك إلا نتاج فهم أردني راسخ بأن العالم مدعو إلى إنهاء آخر احتلال توسعي عنصري على وجه الأرض، لقد خاطب الأردن العالم باللغة التي يفهمها، وكان الحزم في الموقف سيد الخطاب، وليس بعيدا من ذلك تصريحات رئيس الوزراء الأردني التي أكدت أن أي محاولة لإحداث تغيير ديمغرافي في الضفة الغربية وقطاع غزة سيعدها الأردن بمنزلة إعلان حرب، هذه اللغة الرسمية تحمل معاني التلويح باستخدام كل الوسائل الدبلوماسية وغير الدبلوماسية لمواجهة العدوان، وعرقلة ما تخطط له الأطراف التي بدأت تتحدث عن مرحلة: "غزة بعد حماس".
كان لافتا هذا الحضور الدبلوماسي الأردني ممثلا بشخص وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، حضور واثق وحازم وواضح لا مجاملة فيه ولا مداهنة، وليس أدل على ذلك من المؤتمر الصحفي الذي عقده الوزير الصفدي مع نظيريه الأمريكي والمصري في عمان، فرغم محاولات الوزير الأمريكي الحثيثة لصرف الأنظار عن الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الغزيين على مرأى من العالم، عن طريق تبنيه للسردية الإسرائيلية بشأن ما حدث يوم السابع من تشرين، إلا أن الصفدي أنهى المؤتمر بعبارة موجهة للوزير الأمريكي حفرت في الأسماع عميقا: "علينا أن نذكر بعضنا دائما بإنسانيتنا".
على المستوى الشعبي، كانت الجماهير تلاحق الخطوات المتقدمة للموقف الرسمي، فقد سُحب السفير الأردني من تل أبيب، وأُبلغت الخارجية الإسرائيلية بعدم موافقة الأردن على عودة السفير الإسرائيلي إلى الرابية في عمان، سُمح للناس بالتظاهر والتعبير عن الرأي، واستوعبت الأجهزة الأمنية بمهنية واقتدار غليان الشارع الأردني، أما المستشفى الميداني الأردني في غزة فقد صدرت الأوامر واضحة لا لبس فيها بأن يبقى العمل فيه قائما وأن يقدم الخدمات الطبية لأهلنا في غزة حتى تحت القصف، واستطاع الأردن بقوته الناعمة أن يكسر الحصار المفروض على غزة منذ ثمانية عشر عاما، فأسقطت طائرات سلاح الجو الملكي المساعدات العينية والطبية إلى أفراد المستشفى في غزة. وكالعادة أيضا تخرج الاصوات النشاز فتتغافل عن الفعل الأردني وتُشغل الناس بجزئية أن إسقاط المساعدات من الجو كان بموافقة إسرائيلية، متناسين أن استطاعة الأردن إقناع الأطراف المعنية بإدخال المساعدات لم يكن ليتأتى لولا القوة الناعمة لهذا البلد المؤمن بقيادته وشعبه وعدالة قضيته.
الغريب والمستهجن أن تخرج علينا، بين الحين والآخر، دعوات للتوقف عن العمل في القطاعين العام والخاص، دعوات بعضها يصل إلى المطالبة بالعصيان المدني، إن هذه الدعوات تعكس موقفًا ملتبسًا ومضَلِلًا، فإذا كانت القيادة تسبق الشعب في التعبير عن الحرص الشعبي على وقف النزيف الفلسطيني من الخاصرة الغزية، فما الداعي لهذه الدعوات التي تُغلَّف بغلاف شعبي وهي من شأنها أن تفتّ في عضد الجبهة الداخلية؟ وإذا كانت الغاية هي وقف العدوان لماذا تصير الوسيلة في أعين بعضهم أهم من الغاية؟.
ليس من باب التشكيك أو التخوين، ولست من أنصار نظرية المؤامرة والحديث عن تفعيل دور الطابور الخامس، غير أن نظرة فاحصة وبرأس باردة إلى مصادر هذ الدعوات، تجعلنا نصل إلى أن طرف الخيط مرتبط بقوى إقليمية يزعجها الدور الأردني الرائد، كما يقودنا إلى شخصيات ذات ارتباط صهيوني، تصعد على المنصات الإعلامية لتشكك بجدوى الصوت العربي الصارخ بوجه التعنت الصهيوني وتعنت داعميه، في ظل صمت عربي مطبق أو دبلوماسية خجول.
الأولوية الآن لنصرة أهلنا بالطرق المتاحة كلها، وخيارات الأردن كثيرة ومفنوحة، ولنا في أمتنا والعالم دول وشعوب تقدر دورنا وأحقية مطالبنا، أما المزاودون المحليون، والمتآمرون الإقليميون الذي يحاولون تحييد الفاعلية الأردنية الرسمية والشعبية فنقول لهم:
"إن الأردن بكل أطيافه، وعبر كل محطات الصراع، كان وسيبقى الأكثر استبسالا في الوقوف إلى جانب الأشقاء، والتضحية من أجل قضايا الأمة، وإذا ما تعلق الموقف بفلسطين وغزة والأقصى فإن أرخص ما يمكن أن نقدمه هو دماؤنا وأموالنا، فلا يجهلن أحدٌ علينا، وليتذكر المشككون أن على هذه الأرض شعبا عروبيا لم يغب يوما عن سوح الوغى ولم يستسلم لغازٍ أو محتل، هذا الشعب الذي كانت دولة بني أمية العربية تتخير نخبة جنودها وفرسانها من شرق الأردن، فقال فيهم شاعرها:
إذا قيلَ: خيلَ الله يومًا ألا اركبي
وددتُ بكفِّ الأردنيِّ انسيالها