(إسرائيل) في مواجهة التابوت

أعرب الاتحاد الأوروبي عن صدمته من مشهد الاعتداء الإسرائيلي على جنازة الصحفية شيرين أبو عاقلة، وما كان له إلا أن يعبر عن ذلك، فليس من المعقول أن تقف دولة بعصيها ورصاصها وقنابلها أمام جنازة، وتهاجم حاملي تابوت حتى تسقطه، دون مراعاة لحرمة موت، ولا لهيبة موقف، ولا تقدير لمكان، حيث كان الاعتداء في ساحة مستشفى، وأخيراً سقط التابوت من أيدي حامليه، وسقط بسقوطه جزء كبير من صورة (إسرائيل) في أعين كثير من أنصارها والمتعاطفين معها، الذين شاهدوا على الهواء مباشرة كيف يتم الاعتداء على جنازة صحفية مسيحية تحمل الجنسية الأمريكية، ليثبت بالدليل القاطع كثير من آراء الفلسطينيين المتعلقة بكون (إسرائيل) دولة عنصرية مجرمة تعتدي على الأبرياء، وتمارس الفصل العنصري، وتتجاوز القانون الإنساني.

 

ولكن السؤال: ما الذي جرى لتنحدر (إسرائيل) إلى هذا الحد، فتبدو ككيان ضعيف مرتبك، يشعر بالعجز وقلة الحيلة، ويحاول تعويض ذلك بمزيد من العنف، ولكن دون جدوى، كأي بلطجي سقط من أعين ضحاياه، وتمردوا عليه، فصار يضرب في كل اتجاه ودون تركيز لعله يقنعهم بأنه ما زال قوياً.

كان تصرف (إسرائيل) حتى بمعايير الكيانات المجرمة، وأنظمة الحكم القمعية تصرفا غير مهني، وكأنها "جندي مستجد" في عالم القمع والإرهاب والعدوان، ما الذي كان سيحدث لو سُمح للجنازة أن تمر، لكن (إسرائيل) فيما يبدو لم تدرك أن الزمن الذي كانت تتحكم فيه بمصائر الناس؛ من خلال اتصال هاتفي من قبل ضابط مخابرات يهدد الناس ويتوعدهم قد انتهى، فكانت فضيحتها أمام العالم.

أرادت أن تظهر أنها قوية، قادرة على السيطرة على الأوضاع في مدينة القدس، كانت تريد القول: إنها من يسمح بحركة كل شيء، هي فقط من يسمح لهذه الجنازة أن تسير، ولتلك أن تتوقف، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً، كما أرادت أن تؤكد أن لها السيادة على المدينة المقدسة، وأنها قادرة على تطبيق ما أعلنه رئيس حكومتها نفتالي بينت من أن القدس الموحدة عاصمة لها، فكان قرارها منع رفع العلم الفلسطيني، ففشلت كل عصيها وقنابلها الغازية في ترسيخ ذلك، وسارت الجنازة، وحولها أعلام فلسطين، فكانت تلك هزيمة في معركة لو كان لهذا الاحتلال ذرة من عقل ما كان طرفا فيها، فهي معركة خاسرة قبل أن تبدأ.

لكنه فقدان القيادة، يفعل ذلك وأكثر، فمن يصدق أن ديمقراطية ما؛ يُمكن أن يحكمها حزب بستة مقاعد برلمانية من أصل مائة وعشرين، ذلك منتهى الفساد، الذي يقود إلى خلل واضح في القدرة على الحكم، واتخاذ القرار الصائب، وسيؤدي لا محالة إلى الضعف والارتباك، حيث يغيب أصحاب القرار السليم لصالح أمثال بن غفير وأنصاره من الساعين بمنتهى الرعونة لإشعال حرب دينية مع كثيرين في العالم الإسلامي عبر الاعتداء على المسجد الأقصى، واستفزاز المتعلقين به من المؤمنين، واليوم يستفزون المسيحيين من خلال العدوان على جنازة لا حول لها ولا قوة.

كما فعلت (إسرائيل) ما فعلته اليوم خوفاً من خطر التجمع الفلسطيني، فأن تسير جنازة كبيرة في مدينة القدس؛ هذا يعني أن الفلسطينيين قادرون على التجمع والانتظام في فعل جماهيري قادر على التأثير، لقد أرادت كسر إرادتهم، وأن تقول لهم: لن نسمح بذلك، ونحن قادرون على فرض ما نريد، وحتى لو كان كل العالم يشاهد ذلك فلن نتراجع، وأرادت أن تؤكد ميدانيا أنها ستمنع أي جنازة أخرى لاحقا، وهذا الفعل سيجعلها قادرة من وجهة نظرها على التحكم فيما يجري، فلا تباغت بما لم يكن في حسبانها، لقد أرادات أن تكون في موضع الهجوم على الفلسطينيين، بدلا من أن تجد نفسها لاحقا في موطن الدفاع، خاصة بعدما جرى في معركة سيف القدس، وما هذا إلا إشارة ارتباك أخرى.

أمر آخر كان مهماً بشكل شخصي لنفتالي بينت؛ لقد أراد أن يؤكد لجمهوره من اليمين المتطرف أنه متشدد، وقادر على اتخاذ القرارات العنيفة مهما كان الثمن، وهذه القضية تنبه إلى مدى خطورة ما تعيشه (إسرائيل) من انقسام، وأن تداعياته أعمق مما نظن، وأنه يضر بمرور الوقت بمصالحها الجوهرية، حيث صدم هذا السلوك العالم كله، وأفقد (إسرائيل) ما تسعى لبنائه من صورة مثالية أمام الغرب، ومثّل فعلها هدية مجانية عظيمة لكل من يحاول إقناع الآخرين بمقاطعة (إسرائيل).

وهو ما يدفع كل فلسطيني معادٍ للاحتلال للاستفادة مما يجري في تعزيز الوحدة بين مختلف الساحات الفلسطينية في الداخل والقدس والضفة وغزة والشتات، والعمل الدؤوب على تطوير العمليات البطولية الفردية المقاومة، لتكون أكثر جدوى، وأكثر إيلاما للاحتلال، وتنجح في تحقيق مصالح وطنية فلسطينية سامية، كما ينبغي علينا أن نخرج من أسر الواقع المؤلم الذي تعيشه السلطة، حيث العجز وفقدان المبادرة والاستسلام، والعمل على تشكيل قيادة فلسطينية لائقة قادرة على استثمار واقع (إسرائيل) الحالي لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وطموحاته العليا، فتلك فرصة عظيمة سنخسر كثيرا إذا مرت دون أن ننجح كفلسطينيين في تغيير الواقع الحالي جذرياً.