اقتحام الأقصى.. المرحلة الجديدة

خبرني - ليست عملية اقتحام الجيش الإسرائيلي المسجد الأقصى معزولةً عن سياقات دولية وإقليمية ومحلية، ومخطّطاً له غايات وأهداف واضحة بالنسبة للكيان الإسرائيلي، سواء كان بنيامين نتنياهو في السلطة أو جاء بعده نيفتالي بينت، أو كان دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنير أو الرئيس الأميركي الحالي جوزيف بايدن، فإنّ النتيجة المفترض أن ندركها أنّ المسألة استراتيجيات وسياسات وليست أشخاص ورغبات.

 

كان السياسي الأردني الراحل، عدنان أبو عودة، حريصاً على التأكيد، في أغلب لقاءاته وحواراته، على مسألةٍ رئيسية، أنّ العرب لم (ولا يزالون) يدركوا طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه وأبعاده، لذلك لم يعرفوا كيف يتعاملون مع إسرائيل خلال العقود الماضية. في المقابل، كانت إسرائيل قادرة على الإمساك بأهداف الحركة الصهيونية واستراتيجيتها، حتى وصلت إلى اللحظة الراهنة التي لن تضيّعها.

وبالنظر إلى ردود الأفعال البائسة عربياً وإسلامياً على اقتحام المسجد الأقصى أخيرا، فمن الواضح أنّ هنالك مرحلة جديدة تدخل إليها الحركة الصهيونية، وتتمثل في نزع القداسة والرمزية والهيبة عن قضية القدس والمسجد الأقصى، والملاحظ أنّ الاقتحام تزامن مع زيارتين قام بهما الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى كل من أنقرة وعمّان (الشهر الماضي)، وبعد تنشيط اللقاءات الإسرائيلية - العربية، بخاصة مع كل من الأردن وتركيا اللتين وقفتا، سابقاً، موقفاً صلباً وحاسماً من موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقادا جهوداً ديبلوماسية عربية وإسلامية ضد تلك الخطوة.

المفارقة أنّ عمّان وأنقرة حريصتان على التأكيد على رمزية القدس وقدسيتها، سواء عبر الوصاية الهاشمية أو البعد الروحاني - التاريخي، فيما يبدو الموقف الإسرائيلي الحالي صلباً وواضحاً في ترسيم معادلة خطيرة في القدس تقوم على التهويد ونزع أي بعد عروبي إسلامي في المدينة، والانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ تجاه المسجد الأقصى والمقدّسات هناك، والتقدّم خطوات أخرى في تحقيق الحلم التوراتي التاريخي.

هذا يعود بنا إلى ما حدث خلال حقبة ترامب من عمليات التطبيع العربية - الإسرائيلية التي أطلق عليها الاتفاقيات الإبراهيمية، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس والإعلان عن "صفقة القرن"، وتصفية القضية الفلسطينية من أبعادها العربية والإسلامية والرمزية والتاريخية، ذلك كله مرتبطٌ بسياق استراتيجي أكبر وأخطر، وما نراه حالياً مجرّد مقدّماتها وإرهاصاتها، إنما المخطط، بالضرورة، أكبر وأبعد بكثير مما يحدُث حالياً.

هذا على صعيد المخطط الصهيوني والاستجابة الرسمية العربية والإسلامية، وخطّة الترويض المرحلية التي نراها لا تعني بالضرورة أنّها نجحت بصورة مطلقة، على الرغم من أنّني لا أستبعد أن نرى البهجة والفرحة على وجوه حكّام إسرائيل وقادة الحركة الصهيونية وهم يرون هذه الردود العربية - الإسلامية الباهتة المخجلة تجاه ما يحدُث. ومع ذلك، ما يدركه هؤلاء جميعاً أنّ معادلة القدس الرمزية والتاريخية لا ترتبط بميزان القوى المؤقت، فكم مرّةً جرى احتلال القدس واستعادتها، وكم تغيرت أنظمة وحكومات وحكام، لكن القضية بقيت وستستمر، وما نراه حالياً من الاستقواء على المقدسيين والفلسطينيين لن يكون إلاّ زيتاً يصبّ على نار مشتعلة.

أما الأطراف المستفيدة، فبالتأكيد إيران، لأنّ كل الاستدارة العربية بذريعة الخطر الإيراني ستخدم إيران ومشروعها مع ما يقوم به الصهاينة في المسجد الأقصى. وستستفيد أيضاً الحركات الراديكالية التي تؤمن أنّ الأنظمة العربية خائنة، وأن الحركات المعتدلة مفرّطة ومتواطئة. وبالتالي، سيعاد استخدام موضوع فلسطين للدعاية السياسية والتجنيد، وقد رأينا في بعض العمليات أخيرا كيف تمكّن تنظيم داعش من البدء بالدخول إلى العمل المسلّح ضد إسرائيل.

في دراسةٍ أنجزناها في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وبصدد نشر نتائجها قريباً، عن تأثير انهيار دولة داعش على جهاديي الأردن؛ وجدنا أنّ ظلالا واضحة بدأت تظهر على العمليات أخيرا، خصوصا بعد نقل السفارة الأميركية إلى القدس، إذ إن هنالك محاولات عديدة من الشباب الأردنيين للقيام بعمليات في إسرائيل للردّ على ما يحدث في الأراضي المحتلة، وهو اتجاه كان صاعداً بصورةٍ ملحوظة. ومع التطوّرات أخيرا، من المتوقع أنه سيشهد طفرة!

إذا كان الانهيار العربي والإسلامي ونزع الرمزية والقداسة والهالة عن موضوع القدس والمقدّسات بمثابة مرحلة جديدة في المشروع الصهيوني، فإنّ هذا الانهيار سيفتح المجال لانهيارات مماثلة في النظام الرسمي العربي، ويفتح الباب أمام بدائل وثقافة بديلة تملأ الفراغ لتقف أمام المشروع الصهيوني.