ثقافة استثمار الوقت ‏

أدركت الأمم بحضارتها المختلفة والأديان السماوية أهمية ثقافة استثمار الوقت لصالح الحياة البشرية سواء كانت على الصعيد الشخصي للإنسان الفرد، أو المؤسسي، أو المجتمعي بكافة مكوناته. ومن باب المقارنة نجد الكثير من المجتمعات ترى بإن ثقافة إستثمار الوقت هو المدخل والمخرج الحقيقي للتوجه نحو التطور والتحضر وتحقيق قفزة نوعية في مجمل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية والاقتصادية، مما يسهم ذلك في إبراز هويتها كمعلم حضاري ممزوجاً بالتفوق والتميز وتكون بنفس الوقت مضرباً للمثل يتغنى بها القاصي والداني والأمثلة كثيرة عن تلك المجتمعات والتي إنطلقت من استثمارها المناسب للوقت لتكون بالتالي ثقافة مجتمعية راسخة عبر الأجيال.

 

وبالرغم من أهمية ثقافة إستثمار الوقت لا نجدها غير راسخة في فكر وثقافة بعض المجتمعات ونجدها في حقيقة الأمر ليست من سلم أولوياتها و لأسباب يعلمها الجميع وإنما الأكتفاء بالاعتراف بها والحديث المطول عنها إن لزم الأمر ولكنها فعلياً غير مُفعلة في قاموسهم وإنما ما نسمعه هو تراشق إستعراضي لمبررات غيابها في حياتنا اليومية الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، ومن المُلفت للعيان بإن كثير من الأحيان تقصد على إضاعة الوقت عبثاً والاستهتار بقيمته، والأغرب من ذلك نجد الكثير منا يسمع ويقرأ عن أهمية استثمار الوقت ناهيك عن الكثير منا قد تعايش مع مجتمعات أخرى تعنى وتحترم الوقت بشتئ مناحي حياتها عملاً بالقول الشائع "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك".

ولو أطلعنا على حالنا سنجد ما لا يسرنا وسنجد بإن ثقافة استثمار الوقت حلقة مفقودة، ونجد حياتنا على الصعيد الشخصي و المؤسسي، والمجتمعي غير مرتبطة تماماً بهذه الثقافة لا من قريب ولا من بعيد، وإنما نجدها شعاراً نتزين بها في أحاديثنا و نقاشاتنا و إجتماعاتنا المطولة بالساعات والعقيمة بمضمونها دون التوصل لأية نتائج تُترجم توجهاتنا وأهدافنا، مما يدل ذلك على افتقارنا لثقافة استثمار الوقت على الرغم من اعتبارها الإطار الزمني الناظم سلوكياتنا الحياتية في شتى مناحي الحياة وكأننا نقول وبلغة أخرى بأننا مازلنا نتصرف في كثير من الأحيان وحسب القول الشائع " فوضى القطيع"  في إدارة شؤون حياتنا وبغض النظر عن النتائج.

وبالرغم من علمنا الأكيد بأسباب عدم استثمار الوقت بالشكل الصحيح إذ نجد الكثير منا يتقصد إلى إضاعته بالقيل والقال، والأحاديث العقيمة، واستعراض المواهب الشخصية المزيفة، والخبرات الشخصية والاجتماعية، وصف الحكي المنمق والتي أصبحت بمجملها تحتل حيزاً من فكرنا بما لا يقل عن 70% حسب ما أشارت له بعض الدراسات من وقتنا المهدور بالانشغال بهكذا تفاصيل والتي لا نجدها بالمقارنة بثقافات مجتمعية أخرى، مما ساهمت في تشكيل نمطاً فكرياً وسلوكياً ونهجاً حياتي يسوده الفراغ الفكري والبعيد كل البُعد عن معالم التحضر والرقي المجتمعي. ومن هنا يرى الكثير من المختصين والمفكرين ومنهم رواد الفكر الإداري بالتأكيد على أهمية ثقافة استثمار الوقت وكيفية استثماره بالشكل الأمثل لما لها من مكاسب وعوائد مادية ومعنوية تسهم وبشكلٍ واضح للعيان في تطور المجتمعات وازدهارها.

ولترسيخ ثقافة استثمار الوقت بما هو مفيد في حياتنا كمجتمعات ومؤسسات وأفراد لابد منا وبجدية العمل على إذابة الفراغ الفكري المغموس بالقيل والقال، والتهذيب الشخصي والسلوكي، وإذابة ثقافة الثرثرة المقيتة الفاقدة لمعاني القيم الفكرية والاجتماعية، وترسيخ ثقافة استثمار الوقت في فكر وشخصية وهوية الإنسان الفرد وذلك من خلال أدوار الأسرة والمدرسة والجامعات والبرامج الثقافية الإعلامية، ودمج مفهوم وأهمية الوقت في مضامين القيم والمبادئ والمفاهيم الاجتماعية والفكرية لترسيخها في فكر وثقافة أفراد المجتمع وترجمتها بالتالي في سلوكياتنا وفكرنا القائم على الالتزام الأدبي في كافة شؤوننا الحياتية ومن صورها الاخلاص والتفاني لتعكس حرصنا على الوقت بعوائده المادية والمعنوية والناهية عن هدر الوقت في الثرثرة العقيمة. ومن هنا نعتقد بأننا نتفق جميعنا على أن ترسيخ ثقافة إستثمار الوقت لتكون إحدى معالم الهوية الفعلية للأفراد والمؤسسات والمجتمع برمته والرامية إلى تشكيل صوره ممزوجه بثقافة الرقي والتحضر المجتمعي الفكري والسلوكي