سيكون لزاماً علينا أن نتوقف عن اجترار العبارة المعلّبة الغبية: (هذه الجرائم البشعة غريبة عن مجتمعنا). فهي مسرب هروب جبان من مواجهة الواقع ومعاينة استحقاقاته. فما هي الجرائم البشعة التي لم تقع لدينا حتى الآن؟؛ كي نستغرب من بتر يدي طفل وفقءِ عينيه؟. قد حدث ما هو أفظع، ولكننا نتناسى ونكابر. علينا بداية أن نتدرب جيداً كي تكون هواتفنا الذكية «مقبرة» لكلِّ شيء قبيح يصلها. أي أن تموت الأشياء السيئة حال وصولها إلينا، فلا تشرع بإعادة إرسالها أو نشرها. وهذه الأخلاقية المجتمعية المهمة قد تكون أفضل ما نعلمه لأولادنا ولأنفسنا في عالم التواصل الحديث. بالعودة إلى جريمة الزرقاء، فإني ما زلت أرى أن المجتمع أسهم فيها منذ زمن بعيد حين تسامح وتصالح مع البلطجية والسرسرية والمجرمين، وأوجد لهم ظهراً يسندهم، وحواضن تخصّب عنفهم، وتتحرك لتتستر عليهم وتتوسط لهم، وتحميهم إن وقعوا؛ حتى شمخت شوكتهم؛ وشعروا بالتفوق علينا؛ واستمرؤوا العنف وتلذذوا به. وما هذه الجريمة إلا ثمرة لذلك التراخي الذي تغافلنا عن صده حتى دهسنا. سأذكركم بما كان معروفاً في مجتمعنا قبل الدولة وقوانينها، وقد تجاوز عنه الناس، وما عادوا يعملون به، مع أنه عرف طيب. إذ كان ثمة ما يعرف ب «التشميس» وهو أن تقوم العشيرة أو العائلة برفع غطاء الحماية عن ابنها المجرم أو البلطيجي، وأنها لن تطالب بدمه أو تؤويه. وسأذكركم أيضاً بما يناقض هذا العرف، حين تؤمن العائلة بالمثل المجرم الذي ما زال العمل جاريا به: (قومٌ بلا عقال ضاعت حقوقها، وقوم بلا جهال راحت قطايع). ولهذا تهتم بعض العائلات أن يكون لديه مجرم من أبنائها يذود عنها، وتلك كارثة ما زالت تضرب مجتمعنا. ورد في الأخبار أن المتهمين بجريمة الزرقاء يرزحون تحت المئات من القيود الأمنية، وأنهم أصحاب سوابق وخريجو مراكز إصلاح وتأهيل. وهذا يجعلني أتساءل بكلِّ عجب: هل تمثل السجون بحق مراكز للإصلاح أو التأهيل؟. ويجعلني أتساءل أيضاً: لماذا لم يتحرك المجتمع لكبت ولجم شرور هؤلاء قبل أن تشتد شوكتهم؟ لماذا وجدوا من يعتني بهم ويساندهم أو يتفاخر بهم أحياناً. أول العلاج أن نعترف بحقيقة المرض وخطورته. وألا ندهن على صدأ ونداهن الحقائق أو نطليها بالمثل الزائفة. علينا أن نقر بأن العنف متوافر في مجتمعنا وله البيئة المخصبة. وهذا يفرض علينا أن نتقبل العلاج الذي لن تكون الحكومة وحدها قادرة عليها، بل لا بد للدولة بكل قطاعاتها الشروع به قبل تعمق الجرح وتأصل الوجع.