منذ بدء مسيرة الإصلاح والانفتاح عام 1978م حتى أكتوبر 2020م صنّعت الصين وصدّرت تريليونات الأطنان من البضائع والسلع والآلات وقطع الغيار والأجهزة الكهربائية والإلكترونية والطبية ومستلزمات الدواء وأدوات الزراعة والسيارات والملابس التي غزت العالم شرقاً وغرباً، ولو قيل لكل شيء صنع في الصين: "عُدْ إلى موطنك"، لتوقفت حياة الملايين من البشر وأفلست آلاف المصانع والشركات ..
والصين التي أهدت البشرية قديماً البوصلة والبارود والورق والطباعة، قدمت لها في العصر الحديث الدراجات التشاركية وتقنية الدفع عن طريق الهاتف المحمول والقطارات فائقة السرعة والتجارة الإلكترونية.
وبينما كانت الرهان، خلال السنوات الماضية، على الكَم ومُنصبّةً على التصدير إلى الخارج فقد أصبحت تركز الآن على الكيف ومستوى الجودة بادئةً بالسوق المحلية التي تضم 1.4 مليار مستهلك، حيث تسعى الصين حالياً لتصبح رائدة في الاقتصاد الذكي بكل جوانبه، المنازل والمتاجر الذكية والسيارات ذاتية القيادة والطائرات دون طيار والشحن الذكي والروبوتات التي تقدم مختلف ألوان الخدمة.
ومع تخوف البعض من أن تصبح الصين دولة من الآليين الذين يؤدون العمل بدل الإنسان وتعطُّل ملايين البشر في هذا السياق، فإن الواقع أثبت أن هذا غير صحيح، حيث وفر ذلك القطاع التكنولوجي ملايين الوظائف الجديدة ومرتفعة الدخل أيضاً.
وحسب توقعات مجموعة بوسطن الاستشارية بالولايات المتحدة، فإنه بحلول عام 2035م، سيقترب حجم الاقتصاد الرقمي الإجمالي للصين من 16 تريليون دولار أمريكي، وسيصل معدل اختراقه للمجالات الأخرى إلى 48%، وسيبلغ إجمالي قدرته التوظيفية 415 مليون وظيفة.
والذي يعيش في الصين يشهد هذا التحول الكبير في نمط الحياة، فالتعامل المباشر مع الأوراق المالية، على سبيل المثال، يكاد يصبح جزءاً من الماضي، حيث اختفت حافظة النقود التقليدية وحل مكانها الموبايل الذي تستطيع من خلاله شراء ما تحتاج إليه من سلع ولحوم وخضراوات وفواكه ودفع أجرة التاكسي وحجز تذاكر القطارات والطائرات وغرف الفنادق والتسوق عبر الإنترنت، وأنا شخصياً لدي ورقتان من فئة المائة يوان أحملهما منذ أكثر من شهرين في جيبي كلما خرجت، ولكنني أعود بهما دائماً سالمتين سليمتين..
والكثير من المحال التجارية في الصين الآن تدار بالتقنية الحديثة، تدخل فتختار ما تشاء من سلع، ثم تدفع ثمنها عبر مسح كود معين بواسطة الهاتف المحمول ثم تغادر بسلام، وجميع طبقات المجتمع لا تجد صعوبة في التعامل بهذا الأسلوب.
وقد كان لهذه التكنولوجيا دور كبير في مكافحة مرض كورونا في الصين، فاستُخدمت الكاميرات الحرارية في محطات المترو والمتاجر والأسواق لقياس درجات الحرارة لمن يمرون أمامها، ووُضعت أكواد وتطبيقات معينة على الهواتف المحمولة لتتبع حركة البشر والمناطق التي زاروها ومعرفة عدد الإصابات وأماكن وجودها، ما كان له أثر حاسم في محاصرة الوباء والتغلب عليه وفتح الاقتصاد مرة أخرى.
ويندر أن تتابع الإعلام الصيني ولا تقرأ خبراً عن أذكى حاسوب وأعلى ناطحة سحاب أو أفضل مصنع في إنتاج كذا، وكأنه سباق مع الزمن لتحقيق اختراقات جديدة.
والمنظمة العالمية للملكية الفكرية "ويبو" قالت في بيان في إبريل الماضي، إن الصين قدمت 58990 طلبًا لتسجيل براءات اختراع لدى المنظمة في عام 2019م، متفوقة بذلك على الولايات المتحدة التي قدمت 57840 طلباً، لتصبح الصين الأولى عالمياً وتزيح الولايات المتحدة عن المرتبة التي كانت تشغلها منذ عام 1978م.
وفي ظل البيئة الدولية المعقدة والمتقلبة بسبب انتشار الوباء وتصاعُد الأحادية والحمائية التجارية وتباطؤ الاقتصاد العالمي، وما تعانيه سلاسل الصناعة والتوريد الدولية من مصاعب، من المتوقع أن تزداد وتيرة تدشين عصر الاقتصاد الجديد في الصين.
ورغم ما تتعرض له الشركات الصينية الكبرى في مجال التكنولوجيا الفائقة مثل هواوي وأخواتها، من حرب ضروس لعرقلة وجودها وتقليص دورها، بدعوى تهديدها للأمن القومي ببعض البلاد الغربية مثل إنجلترا والولايات المتحدة، فإن هذه الاحتكاكات التجارية بقدر ما تثير من الضيق والغضب لدى الصينيين فهي تدفعهم إلى مزيد من العمل لكي تكون الصين بحق دولة المبتكرين، حسب تعبير الزعيم شي، الذي يقود لتحقيق هذا الحلم، ويؤكد في خطاباته على دور الابتكار في تعزيز التنمية وصياغة حياة أفضل للإنسان وبناء مستقبل مشترك أجمل للبشرية جمعاء.