طالما رفع الساكنون في أربعينيات العمر يافطة تلوح على مفارق الطرقات تقول: الرجلُ بعد الخامسة والأربعين يفكر بالحب كثيراً ومليّاً، نفسهُ خضراءُ طريةٌ، ويدهُ شجرة ورد، وروحه يمامة، وصمته جواب.لا تصدقهم يا أنت. لا يخدعك هؤلاء المبجلون الوثيرون بمجاز كلماتهم. هم يعيشون في مدارات أخرى للحياة، ولم تتشابه البدايات بينكم، ولن تتشابه المآلات. من يتحدث عن الحب بكثرة لا يحب. من يدعي طراوة النفس إلى اليباس سيؤول.في الثامنة والأربعين أحسني ثمانية أطفال معاً. كل طفل بست سنين عامرة بالشغب والدهشة ومتعة السؤال. أنا شابان كل منهما في الرابعة والعشرين من العمر، دمجتهما روح العنفوان في قلب أحمر يركض. أنا شيخ في السادسة والتسعين شطره الزمن إلى صديقين متحاربين متحابين لدودين. أنا مرآتي، وأراني كما أريد. في السهرة قالت عرافة المقهى، وقد غمز لها صديقٌ ستيني؛ كي تنال مني: الرجل في أواخر الاربعينيات غصنٌ يابسٌ، حظٌّ عابس، ووهج ينوس. ما بعد الخامسة الأربعين، باب الشيخوخة، وسؤر كؤوس حامضة. ساعتها انفجرت صاخبا: تباً لبقايا فنجان تركته ليدك الراعشة أيتها الغضناء. خدعتني زرقة عينيك. خذي دنانيرك وارحلي.الرجل في الثامنة والأربعين ثمرٌ دان، وعمر ثان. عسلُ مصفٌى. نحلٌ شقي الشطحات، طويل الغيبات، مليئ الحواصل. الرجل الأربعيني شامة الوقت، بيرق العاشقين، آخر المهزومين في زحام الوهم، ومطاعنة طواحين الهواء و(المراجل الفاضية).صديق يكبرني ببضع سنوات، يقول لنا وهو يلوي الكلمات: الرجل في أواخر الأربعينات أخو الشيخوخة، وابن الأرجوحة. خاتم زوجته الضيق، وربيب طاعتها الأعمى. فنضحك ملء الخدر؛ ليسترسل بعد نحنحات باكية: الشعر يتهطل شيباً، والعمر يمتلئ عيباً.لا يا صاح، يا رفيق العكاز. قل هذا عن نفسك. أنا عصفور لا يرقد في عش، لا يسكن في غيمة، لا ترضيه النهارات. روحي سماوات بعيدة عنيدة. لكني في لحظات قد أطمر وجهي في راحة كفي، وأنحب ملء رئتي وأصيح: ماذا أنجزت؟ كيف عشت؟ ولماذا أخذت الحياة على محمل الجلد؟.عند مشارف الأربعين قالوا لي: الحياة تبدأ من هنا. عليك أن تعرف أن من دخل الأربعين بلا إنجاز لن ينجز. فمن (طبع طبع ومن ربّع ربع). وعندما دخلت الرابعة والأربعين قلت: هذه سنة زقزاقية، كلها زوايا، لكني لن أختبئ في أي زاوية هنا أو هناك. واليوم روحي تتوق إلى الخمسين. هي قاب قبلتين أو أدنى. تعجبني الخمسة، هي دائرة بلا زوايا، مثل كرة الأرض، فرضت علي أن أواجه الحياة بمزيد من الحياة.