حين تختبر الأمطار الجاهزية الوطنية، لا يكون الامتحان في نزول الغيث أو شدته، فذلك أمر بيد الله وحده، وإنما في مدى استعداد الدولة، وحسن إدارتها، وقدرتها على تحويل هذا الغيث من مصدر قلق وأزمة إلى نعمة آمنة لا تهدد حياة الناس ولا ممتلكاتهم.
ما شهدته مختلف مدن المملكة ومناطقها من أمطار لا يمكن اعتباره حالة طارئة عابرة، ولا مجرد ظرف جوي استثنائي يطوى مع انقضاء المنخفض ، فما جرى كان اختباراً عملياً وصريحاً لمدى الجاهزية الوطنية في التعامل مع الحالات الجوية، واختباراً حقيقياً للبنية التحتية والخطط المعلنة والاستعدادات التي يفترض أنها وضعت لمثل هذه الظروف، لا على الورق، بل في الميدان.
في عدد من المدن، وعلى امتداد طرق رئيسية وأحياء سكنية، شاهدنا مشاهد مقلقة لا يجوز التقليل من دلالاتها : فيضانات في الشوارع، تعطل للحركة، ضغط هائل على شبكات تصريف المياه، ووصول المياه إلى منازل في بعض المناطق ، انفجارات في بعض السدود ، هذه المشاهد، التي تكررت بدرجات متفاوتة من مدينة إلى أخرى، لا يمكن فصلها عن سؤال أكبر وأعمق يتعلق بقدرة الدولة، كمؤسسات وخطط وتنفيذ، على إدارة المخاطر الطبيعية المتوقعة، لا تلك التي تأتي على حين غفلة.
لم نكن أمام ظواهر مناخية لم يسبق التحذير منها ، فقد اعلنت الجهات المختصة بوضوح عن الحالة الجوية، وكان من الواضح أن شدة الأمطار وتكرارها في تزايد ، ومع ذلك، أظهرت الوقائع الميدانية أن الجاهزية في بعض المواقع لم تكن على مستوى التحدي، ولا على مستوى ما يفترض أن تكون عليه دولة تمتلك الخبرة والإمكانات والقدرة على التخطيط المسبق.
إن ما جرى يفرض علينا الخروج من دائرة التوصيف السريع، والدخول في نقاش جاد ومسؤول حول جذور المشكلة ، فالبنية التحتية عندنا لا تختبر في الأيام العادية، بل في الظروف الصعبة، وشبكات تصريف المياه لا يحكم عليها في الهطولات الخفيفة، بل عند الضغط الحقيقي ، وعندما تفشل بعض هذه الشبكات، أو تظهر ضعفاً واضحاً، فإن ذلك يشير بوضوح إلى خلل في التخطيط، أو التنفيذ، أو الصيانة، أو في منظومة الرقابة كاملة، وهي مسائل لا يجوز تجاهلها أو ترحيلها.
الأمر لا يتعلق بمدينة بعينها ولا بموقع محدد، بل بنهج عام في التعامل مع ملف البنية التحتية وإدارة المخاطر ، فحين تتكرر المشاهد نفسها مع كل موسم مطري، تتبدد محاولات التبرير، ويصبح من غير المقبول الاستمرار في معالجة النتائج بدل معالجة الأسباب.
إن الدولة التي تخطط للمستقبل لا تنتظر وقوع الأزمة كي تتحرك ، بل تبني سياساتها على أسوأ الاحتمالات، لا على أفضلها، وتضع حماية المواطن في صلب أولوياتها ، وما يزيد من حساسية الموقف هو الأثر المباشر على المواطن ، فالمواطن الذي يرى ممتلكاته مهددة، وطرق تنقله مشلولة، وحياته اليومية معطلة، لا يبحث عن تفسيرات تقنية بقدر ما يبحث عن شعور بالأمان والثقة.
وحين تتزعزع هذه الثقة، فإن الضرر لا يكون خدمياً فقط، بل يمتد ليطال العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وهي علاقة لا تحتمل الاهتزاز ، ومن هنا، فإن المسؤولية الوطنية تقتضي أن يقرأ ما حدث بجدية كاملة، وبعيداً عن لغة التخفيف أو التبرير.
المطلوب ليس تبادل الاتهامات، ولا تحميل الظروف الطبيعية ما لا تحتمل، بل فتح مراجعة شاملة وشفافة لكل ما يتعلق بالاستعداد لمواسم المطر، من تخطيط المدن، إلى تصميم الطرق، إلى شبكات التصريف، إلى آليات الصيانة الدورية، وصولًا إلى التنسيق بين الجهات المختلفة وقت الطوارئ.
كما أن مبدأ المساءلة يجب أن يكون حاضراً بوصفه أداة إصلاح لا أداة تصفية حسابات ، فالمحاسبة المهنية، القائمة على الوقائع والتقييم الفني، هي الضمانة الحقيقية لعدم تكرار الأخطاء، وهي الطريق الأقصر لاستعادة ثقة المواطن ، فلا يمكن القبول بأن تتكرر المشكلات ذاتها كل عام دون نتائج ملموسة، أو أن تبقى بعض الملفات مفتوحة دون حسم.
إن المملكة تمتلك من الإمكانات والخبرات ما يؤهلها لتحويل هذا التحدي إلى فرصة ، فرصة لإعادة ترتيب الأولويات، وللاستثمار الجاد في بنية تحتية مرنة، قادرة على التكيف مع المتغيرات المناخية، وقادرة على حماية المدن والمواطنين معاً ، فالوقاية، مهما بلغت كلفتها، تبقى أقل بكثير من كلفة الأزمات المتكررة، مادياً ومعنوياً .
الأمطار التي هطلت كانت، في جوهرها، أمطار خير، لكن طريقة الاستعداد لها وطريقة إدارتها هي التي تحدد نتائجها ، وما بين النعمة والعبء، تقف الجاهزية الوطنية كعامل حاسم لا يحتمل المجاملة ، وإن تحويل دروس الأيام الماضية إلى قرارات عملية هو الاختبار الحقيقي القادم، وهو ما ينتظره المواطن، لا بيانات تطمين مؤقتة سرعان ما تتلاشى.
في المحصلة، لا يتعلق ما جرى بالأمطار بقدر ما يتعلق بما بعدها ، فالدول لا تقاس بقدرتها على تجاوز الأيام العادية، بل بقدرتها على التعلم من الاختبارات الصعبة وتحويلها إلى نقاط قوة ، وما شهدته المملكة خلال الأيام الماضية يجب أن يُقرأ بوصفه فرصة جادة لمراجعة السياسات، وتقييم الجاهزية، وتصويب المسار، قبل أن تتكرر المشاهد نفسها بثمن أعلى.
بقي ان اقول وإن أطلت ، ان الجاهزية الوطنية لم تعد شعاراً موسمياً يستدعى مع كل منخفض جوي، بل مسؤولية دائمة تتطلب تخطيطاً شجاعاً ، وتنفيذاً صارماً، ومساءلة عادلة .
وبين أمطار يرسلها الله تعالى رحمة، ودولة يفترض أن تحسن إدارتها، تقف ثقة المواطن كأمانة لا تحتمل الإهمال ولا التأجيل.