مِسك الختام في «مَسك الدفاتر»!

بصرف النظر من أخذ أو «نقل عن» من، ومن ترجم لمن، فإن «مَسك الدفاتر» -»بُك كيبِنْغ» بلغة المحاسبين أو المدققين الماليين- هي مهنة تتطلب مهارات حسابية، عادة ما ترتبط بنهاية عام وبدء عام جديد.
الأرقام ليس فيها «قولان»، القول الفصل هو للرقم بآحاده ومضاعفاتها، كما إن القول الفصل أيضا هو في تلك الفاصلة التي بها تحدد منزلة الأصفار يمينا أم شمالا وبالتالي قيمة الرقم المشار إليه في ذلك الحساب دائنا أم مدينا!
ماسك الدفاتر أو حافظ أمانات الحسابات يتطلب فوق المهارة الحسابية، الأمانة في تقييد (تسجيل) كل ما يبرر الوارد والصادر كما هو، لا كما يحب من أنفق المال، استثمره أو اقترضه، في أي وجه بذله. تلك الأمانة يلزمها شجاعة في قول الحق الذي لا يخشى فيه الصادق والأمين في الله لومة لائمة.
يصطفي رجال الأعمال وقادة المؤسسات من القطاعين العام والخاص، يصطفون خيرة الخيرة من أولئك الأمناء الأقوياء، للقيام على أمانة المال العام، وما يفوقه أهمية وخطورة هو كل ما يجبر الخاطر ولا يكسره أبدا، فذلك إن حصل لا قدّر الله لا تعوضه أموال الدنيا وما فيها.
تبقى الأمانة أمانة، مالية كانت أم سياسية أم أخلاقية أم روحية، هي تلك التي شرفت وعظمت مكانتها في عينه سبحانه، وحضت الشرائع السماوية والأرضية كلها على حفظها. أداء الأمانات بكل أنواعها قضية روحية إنسانية حضارية أخلاقية، قبل أن تكون دينية، سياسية أو عقائدية (إديولوجية). لذلك يحظى من يؤديها ويصونها باحترام الجميع بما في ذلك من يصفه الناس بالعدو أو الأجنبي أو الغريب.
أيام قليلة تفصلنا عن نهاية عام وبدء آخر. وداعنا كلنا لسنة 2025 -بحلوها ومرها- على اختلاف مواقعنا من خط غرينيتش وبعدنا أو قربنا من خط الاستواء. من تراه سيكون أكثر الناس أمانة في مسك دفاتر عامنا هذا؟ ومن تراه سيكون الأكثر أمانة وحصافة وحكمة ومحبة في الاستعداد لعام جديد في دفتر جديد، ناصع البياض في صفحاته مع الذات أولا ودائما ومع الآخر ثانيا وأبدا؟
هذه دعوة مفتوحة من على هذا المنبر الكريم -الدستور الغراء- من كاتب هذه السطور أولا ولمن يكرمه الناس في قراءتها أو مشاركتها، بأن نعمل على تصفير الحسابات الجارية والمدينة والدائنة كلها.
تقتضي الحكمة في أكبر قضايانا الخاصة والعامة، أن نتوقف أحيانا أو نكف تماما عن النزعة الجامحة للحساب، حساب الآخر طبعا! لسنا بقضاة، ما كنا ولن نكون أبدا، فالديّان وحده سبحانه هو العالم بما في الصدور، هو الرقيب الحسيب على ما يجول في خاطرنا قبل أن تشرع به جوارحنا.
من حكمته ورحمته ومحبته سبحانه أن خلق الزمان والمكان في مواقيت وحسابات بالغة الدقة. اقتضى الأمر بدايات ونهايات، وتجدد وتجديد، حيث دوام الحال من المحال، و»الحركة بركة»، فمَن أولى من أنفسنا بتلك الأمانة؟ أن نحرص على مسك دفاتر جديدة مع بداية كل عام، وكل فصل، وكل طالع شمس لو استطعنا إلى ذلك سبيلا.
ولعل مسك الختام هو معاهدة النفس أمام باريها بأن نراعي الأمانات كلها في مسكنا لدفاتر العام الجديد، قبل أن ينصّب بعضنا من أنفسهم محاسبين ومدققين قانونيين على دفاتر الآخرين!