يشهد العالم تحوّلًا تكنولوجيًا غير مسبوق بفضل الانتشار السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت جزءًا أساسيًا من مختلف العمليات الاقتصادية والإدارية والخدمية. فقد امتدت تطبيقاتها إلى العديد من المجالات، بدءًا من الصناعة والإنتاج، مرورًا بالخدمات المالية والتجارية، وصولًا إلى التعليم والرعاية الصحية والنقل. ورغم المكاسب الكبيرة المتوقعة من حيث رفع الكفاءة والإنتاجية وخفض التكاليف
التشغيلية وتحسين جودة الخدمات، إلا أن هذا التطور يثير في الوقت ذاته مخاوف متزايدة تتعلق بتأثيراته على سوق العمل نتيجة إحلال الآلات والأنظمة الذكية محلّ العنصر البشري في العديد من الوظائف التقليدية، حيث يمسّ هذا الموضوع أحد التحديات المتمثلة في تحقيق التوازن بين تبنّي التكنولوجيا المتطورة والمتقدمة وتعزيز النمو الاقتصادي من جهة، والحفاظ على استقرار سوق العمل والحدّ من الفجوات الاجتماعية من جهة أخرى.
فالذكاء الاصطناعي لا يمثّل مجرد ثورة تقنية، بل هو عامل محوري يعيد تشكيل البنية الاقتصادية والاجتماعية على حدّ سواء، أي إن هناك تأثيرًا مباشرًا للذكاء الاصطناعي على فرص العمل، حيث إن عددًا كبيرًا من القطاعات سيتعرّض للخطر، ويكون لها تداعيات سلبية. وبالمقابل، على الجهات المعنية، حكومة وقطاعًا خاصًا، استحداث مراكز وكليات ومعاهد لإعادة تأهيل وتدريب تقني ومهني عالي المستوى لمواجهة التعامل مع ذلك، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، وتطوير التشريعات ذات الصلة بما يضمن تحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي مع تقليل آثاره السلبية على التوظيف.
بعد أن أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي سائدة في العديد من تطبيقات الأعمال لرفع مستوى الإنتاجية، أحدثت تغيّرات هيكلية، حيث ستتأثر شرائح العمال ذوي المهارات المتدنية، إذ إن الذكاء الاصطناعي يساعد في تحسين دقة العمل وتقليل الأخطاء البشرية، مثل إدخال البيانات أو تحديث الأنظمة تلقائيًا، إضافة إلى دمج السجلات الرقمية والمكتوبة بخط اليد، كما في أنظمة السجلات الصحية الإلكترونية، وكذلك تحليل البيانات وتحديث الأنظمة والتنبؤ في سلوك السوق والعملاء، وتعزيز التخطيط الاستراتيجي وتقييم المخاطر.
يسهم الذكاء الاصطناعي في رفع الكفاءة التشغيلية داخل الشركات والمؤسسات، حيث يُنجز العمليات المعقّدة التي تحتاج إلى وقت طويل وجهد بشري مضاعف، وإجراء تحليلات كانت تحتاج إلى وقت طويل، وكل ذلك يعزّز جودة النتائج. كذلك يساهم الذكاء الاصطناعي في تطوير قدرات الكشف المبكر عن حالات الاحتيال والمخالفات والانتهاكات المختلفة، الأمر الذي يقلّل من الخسائر المحتملة ويحافظ على استقرار الأنشطة المؤسسية.
فهناك أخطاء بشرية عند تنفيذها يدويًا، ويساعد المسؤولين على اتخاذ قرارات جماعية أكثر دقة وموضوعية، ويعزّز مناخ الابتكار لرفع مستوى الإنتاجية داخل بيئة العمل، فهناك من هم متشائمون من التطورات التكنولوجية، حيث يرون أن هذه قد تؤدي إلى حالة من الفوضى مدفوعة بالبطالة الجماعية وانعدام فرص العمل التقليدية، بينما يرى آخرون أن الاستفادة من هذه التقنية ستحسّن الخدمات الحكومية وتنمية القطاع الرقمي، وستكون أداة للتنمية، ولا بدّ من بناء المبادرات العالية.
وهنا لا بدّ من الاعتراف أنه لا يزال توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لدينا محدودًا، ولم يصل إلى المستوى الواسع لتغيير أنماط التشغيل القائمة، كما يعتمد سوق العمل لدينا بدرجة كبيرة على قطاعات تقليدية مثل الزراعة والبناء والخدمات منخفضة المهارة، إضافة إلى ضعف البنية التكنولوجية في كثير من القطاعات والمحافظات، وتواضع الاستثمارات الموجّهة نحو الذكاء الاصطناعي، مما جعل أثره لغاية الآن محدودًا ومؤجّلًا، لذلك فهو لغاية الآن لا يشكّل دورًا بديلًا للعمالة، لكون التحديات المستقبلية ستكون أكبر وأخطر على فرص العمل التقليدية.