أعاد قرار مجلس الوزراء القاضي بإيقاف إلزامية إنهاء خدمات الموظفين الذين بلغت خدماتهم ثلاثين عاماً أو اشتراكاتهم في الضمان الاجتماعي (360) اشتراكاً، طرح تساؤلات جوهرية تتصل مباشرة بمسار الإصلاح الإداري، وطبيعة إدارة الموارد البشرية في القطاع العام، وحدود الموازنة بين الحفاظ على الخبرات وضمان العدالة الوظيفية. فمثل هذا القرار، بما يحمله من أبعاد إدارية واقتصادية واجتماعية، لا يمكن النظر إليه بوصفه إجراءً تقنياً معزولاً، بل كخيار سياساتي له انعكاساته المباشرة على بنية الجهاز الحكومي وثقة المواطنين به.
ومن المهم التأكيد أن التحفظ على القرار لا ينطلق من التشكيك بالنيات، ولا من الانتقاص من قيمة الكفاءات الوطنية التي أفنت سنوات طويلة في خدمة الدولة، وإنما من الحرص على ترسيخ مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص، ورفع كفاءة الإدارة العامة، وحماية حق الشباب الأردني في الوصول إلى وظيفة عامة وفق أسس واضحة وعادلة. فالخبرة قيمة لا يُستهان بها، لكنها لا يجب أن تتحول إلى مبرر لتعطيل التحديث أو إغلاق الأبواب أمام الأجيال الجديدة.
إن القلق الحقيقي يكمن في ما قد يترتب على هذا القرار من عودة غير معلنة إلى أنماط إدارية سابقة، تقوم على التقدير الشخصي والاجتهاد الفردي في التمديد أو إنهاء الخدمة، في غياب معايير وطنية ملزمة وشفافة. وهو ما قد يفضي إلى تفاوت في المعاملة، وإلى شعور متزايد بعدم الإنصاف، خاصة في ظل جهاز حكومي يعاني أصلاً من تضخم عددي واختلال في التوزيع الوظيفي.
كما أن القرار يفرض إعادة التفكير في مفهوم الدور الوظيفي بعد استحقاق التقاعد، وفي الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لاستمرار شغل المواقع الوظيفية من قبل موظفين تجاوزوا سن الخدمة الفعلية، مقابل حرمان آلاف الخريجين المؤهلين من فرصة الالتحاق بسوق العمل. فالإصلاح الإداري الحقيقي لا يُقاس فقط بالحفاظ على الموجود، بل بقدرة الدولة على التجديد، وإتاحة المجال للكفاءات الشابة، وبناء مؤسسات قادرة على الاستمرار لا على الاعتماد الدائم على الأفراد.
بهذا المعنى، يصبح القرار مدخلاً لنقاش أعمق حول فلسفة التوظيف العام، وحدود الاستثناء، ومعايير الحاجة الفعلية، بعيداً عن الشخصنة أو المجاملة، وبما يحقق التوازن بين الوفاء لمن خدموا الدولة، والإنصاف لمن ينتظرون دورهم في خدمتها.
بدايةً، لا خلاف على أن الحفاظ على الخبرات المتراكمة في الجهاز الحكومي هدف مشروع ومفهوم، لا سيما في بعض المواقع الفنية والتخصصية التي تتطلب معرفة عميقة وتجربة طويلة يصعب تعويضها على المدى القصير. غير أن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في هذا المبدأ بحد ذاته، بل في آلية تطبيقه، وفي ما قد يترتب عليه من آثار مباشرة وغير مباشرة على بنية الإدارة العامة وعلى ثقة العاملين فيها.
فإعادة الصلاحية المطلقة للمرجع المختص بإنهاء الخدمة أو التمديد، دون وجود معايير وطنية واضحة وملزمة، ودون ضوابط شفافة يمكن القياس عليها والمساءلة في إطارها، تعيدنا عملياً إلى مربع الانتقائية والمحاباة. عندها يصبح القرار مرهوناً بالاجتهاد الشخصي، أو بالعلاقات، أو بالمزاج الإداري، لا بالكفاءة الفعلية ولا بالحاجة المؤسسية الحقيقية.
وهنا تتآكل فكرة العدالة الوظيفية تدريجياً، ويُفتح الباب أمام تفاوت في المعاملة بين موظفين متشابهين في المؤهلات والخبرة، وهو ما ينعكس سلباً على الروح المعنوية داخل المؤسسات الحكومية، ويقوّض أي جهد إصلاحي يهدف إلى بناء جهاز إداري مهني، قائم على الجدارة لا على الاستثناءات.
إن أخطر ما في غياب المعايير ليس فقط احتمال الظلم، بل تحويل الاستثناء إلى قاعدة، بحيث يصبح التمديد أمراً معتاداً، لا إجراءً استثنائياً تحكمه الحاجة الفعلية والمصلحة العامة، وهو ما يتناقض مع أي رؤية جادة لإصلاح الإدارة العامة وتحديثها.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي. فنُمدِّد لفلان لأنه «لا غنى عنه»، ونُنهي خدمة علّان رغم كفاءته، في جهاز حكومي يعاني أصلاً من تضخم عددي واختلال هيكلي. وقد أثبتت التجربة الأردنية، عبر سنوات طويلة، أن غياب المعايير الواضحة في مثل هذه القرارات يفتح الباب أمام الظلم الوظيفي، ويُضعف ثقة الموظف والمواطن بالدولة ومؤسساتها.
من زاوية أخرى، لا يمكن قراءة هذا القرار بمعزل عن أزمة البطالة، خصوصاً بين الشباب. فالأردن اليوم يضم آلاف الخريجين الجامعيين المؤهلين، الذين ينتظرون فرصة عمل لسنوات طويلة. وكل وظيفة يتم التمديد لشاغلها بعد استحقاق التقاعد، هي عملياً فرصة تُسحب من شاب أو شابة، وتُغلق نافذة أمل جديدة أمام جيل كامل.
إن أخطر ما في هذا القرار ليس فقط أثره الإداري، بل رسالته المعنوية: رسالة تقول للشباب إن الأبواب لا تُفتح بسهولة، وإن التغيير مؤجل، وإن الدولة لا تزال مترددة في ضخ دماء جديدة في شرايين مؤسساتها. وهذا أمر له كلفة اجتماعية ونفسية وسياسية لا تقل خطورة عن كلفته الاقتصادية.
وتبرز هنا مسألة لا يمكن تجاهلها أو تبريرها : الجمع بين راتب تقاعدي وراتب وظيفي في آن واحد.
فما المنطق في أن يُحال الموظف إلى التقاعد، ثم نعود لنتمسك به ونُمدد له، ليصبح في وضع يتقاضى فيه راتبين، في وقت تعاني فيه الدولة من ضغوط مالية، ويعاني فيه الشباب من البطالة؟ هذا الواقع لا ينسجم مع أبسط مفاهيم العدالة الاجتماعية، ولا مع خطاب ضبط النفقات وترشيد الإنفاق الذي ترفعه الحكومات.
لو كنا جادين في الإصلاح، لكان الاتجاه هو إنهاء جميع أشكال الجمع بين راتبين دون استثناء. فمن يتقاضى راتباً تقاعدياً، ينبغي أن يفسح المجال لغيره في الوظيفة، لا سيما من جيل الشباب. وهذا المبدأ يجب أن يكون عاماً وشاملاً، لا انتقائياً ولا خاضعاً للمناصب أو النفوذ، ويُطبق على الوظائف العليا والدنيا، في الوزارات والمؤسسات والجامعات والهيئات المستقلة، حتى مع المسؤولين انفسهم من وزراء واعيان ومدراء وامناء عامين وغيرة، لأن العدالة لا تتجزأ.
أما الحديث عن فقدان الخبرات، فهو حديث يمكن معالجته بطرق أكثر حكمة وأقل كلفة. فالدول لا تحافظ على خبراتها عبر التمديد الوظيفي الدائم، بل عبر نقل المعرفة، والاستشارة، وبناء الصف الثاني، وإعداد القيادات الشابة. فالخبير الحقيقي هو من يترك خلفه فريقاً قادراً على الاستمرار، لا فراغاً مؤجلاً.
إن الدولة القوية ليست تلك التي تتشبث بالأشخاص، بل التي تبني المؤسسات. وليست التي تؤجل التغيير خوفاً منه، بل التي تديره بوعي وشجاعة. فالتوازن بين الخبرة والتجديد ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية لضمان استدامة الأداء الحكومي، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة.
في النهاية، لا أحد ينكر فضل من خدموا الوطن سنوات طويلة، ولا أحد يدعو إلى إقصاء الخبرات أو التقليل من عطائها. لكن الوفاء للماضي يجب ألا يكون على حساب المستقبل، والإنصاف لجيل خدم الدولة يجب ألا يتحول إلى ظلم لجيل ينتظر دوره. وبين هذين الاعتبارين، يُقاس نجاح القرار، وتُختبر جدية الإصلاح.