الوقت الخامس من حزيران 1967. كنا طلاباً في الثانوية، وتحديداً في فرقة كشافة المدرسة. تهيأنا للحرب بكامل شبابنا وأملنا بالنصر. محو كيان العدو، إزالته عن صدر فلسطين وإزاحته عن أرض «الحبيبة المغتصبة». لكن ماذا نفعل باليهود الذين جاؤوا من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وبولندا ورومانيا، وشتى بقاع الأرض حتى من أثيوبيا.
قال لنا أحمد سعيد من إذاعة صوت العرب المصرية: سنرميهم في البحر، ودعا السمك أن يتجوع لأننا سنقدم له وجبة دسمة. صدقناه!
في تلك الليلة، حملنا عصينا، جبنا شوارع الزرقاء كل في منطقته. كلما رأينا بيتاً مضاءً نصرخ بأعلى صوتنا: «اطفوا الضووو، اطفوا الضووو» حتى لا تراه طائرات العدو فتقصف المنطقة.
كنا نشعر أننا نساهم في الدفاع عن الوطن الصغير الأردن والكبير العربي «من المحيط إلى الخليج». وقتها لم تكن خطة التجنيد الإجباري «خدمة العلم» قد أُقرت وعممت. لكن في المدارس الثانوية كان ثمة حصتان أسبوعياً للتدريب العسكري. يجمعوننا في ملعب المدرسة، يقوم رجال من الجيش برتبة وكيل بتدريبنا أبجديات العسكرية.
الاصطفاف في الطابور، المشية العسكرية، نطوف الملعب. وعندما نتعب يصيح بنا المدرب: «امشِ يا.....» ويقرعنا بمسميات لم نعتد سماعها من المعلمين وخاصة من معلم الرياضة. كان يبث فينا الرجولة بخشونتها واستقامتها، وكنا نشعر فعلاً بأن شيئاً فينا يتغير. مرحلة جديدة جدية وانتقال من دلال الآباء والمعلمين ودلع الأمهات، خاصة أننا كنا نرتدي في التدريب اللباس العسكري الكاكي لكن بدون شعارات ورتب وبيريهات.
في آخر السنة الدراسية يأخذوننا إلى معسكر «خو» ليدربونا على الرماية من بنادق على أهداف منصوبة بداخلها دوائر متتالية، وبداخلها دائرة سوداء صغيرة هي قلب الهدف. من يصيبها فهو ناجح، ومن يصيب إحدى الدوائر التي تليها يكون ترتيبه أقل، أما الذي لا يصيب أياً منها فهو راسب.
نسيت أي دائرة أصبت، المهم أن الطلقة لم تضع في الفراغ المحيط بالهدف.
بعد تلك الليلة عشنا نشوة النصر ونحن نستمع إلى «صوت العرب» وبيانات الإذاعات العربية عن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية ثم مئات الطائرات، وعن تقدم الجيوش العربية في الأراضي المحتلة عام 1948. وحدها إذاعة لندن كانت تأتينا بالخبر اليقين عن عكس ما نسمعه من الإذاعات العربية، لكننا لم نكن نريد أن نصدق رغم أن بعض الشك والإحباط أخذ يتسلل إلى نفوسنا وعقولنا.
لنصحو في اليوم السادس للحرب على الحقيقة المرة: احتلال القدس والضفة وسيناء والجولان وجنوب لبنان.
اليوم كما الأمس، نتنياهو يهدد باحتلال أجزاء من الأردن ومصر والعراق وسوريا والسعودية. خطأنا أننا صدقنا أن اليهود يريدون السلام، ونسينا أنهم قتلة الأنبياء والأبرياء على مر التاريخ. استرخينا وأرخينا خيولنا ترعى في رمال أحلامنا وانتظرنا.
رغم الهزيمة، كم كنا سعداء حين كنا عشية الخامس من حزيران طلاباً نقول: «اطفووو الضو». نتدرب على العسكرية في مدارسنا، ومستعدون للدفاع عن الوطن.