ترصد مراكز الدراسات وقياسات الرأي العام في الولايات المتحدة تغيّرًا ملحوظًا وتدريجيًّا في اتجاهات الشباب الأميركي ونظرتهم إلى السياسة الخارجية لبلادهم ولا سيما إلى إسرائيل والقضية الفلسطينية.
وإذا كان الديمقراطيون أكثر «واقعية» في خطابهم السياسي تجاه منطقتنا رغم أفعالهم الظالمة على الأرض، إلا أن حركة MAGA الرافعة الشعبية للرئيس الأميركي دونالد ترامب بدأت تطرح أسئلة مُلحّة وواضحة إزاء سياسة الإدارة الحالية تجاه الشرق الأوسط وإسرائيل والقضية الفلسطينية وغزة تحديدًا.
MAGA هي اختصار لشعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا» تضم مؤيدين حتى من خارج حزب الرئيس الجمهوري، وهو الشعار الذي طرحه ترامب في حملاته الرئاسية الثلاث.
الأسئلة المتصاعدة في الولايات المتحدة، وإن لم تصل إلى حشد الأغلبية، تنطلق من مصالح شباب الولايات المتحدة الباحثين عن انعكاسات عظمة أمريكا على واقعهم ومستقبلهم، ومدى ارتباط شعار الحملة بجعل إسرائيل، وليس الولايات المتحدة فحسب، عظيمة هي الأخرى.
أما السؤال الأبرز بالنسبة إلى بقية دول العالم، فهو عن عدالة الولايات المتحدة، وليس عن عظمتها.
لئلا يصيبنا الوهم مرةً أخرى، فالتغيير الأميركي قد يأخذ وقتًا أكثر مما نتمنى، وأقل مما تتطلبه سياسة الأمر الواقع الذي تعيشه منطقتنا جراء العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان، بدعمٍ لا محدود من الولايات المتحدة خاصةً، والغرب عامةً.
التغيير في أوروبا أكثر وضوحًا. علينا ألا ننسى إسبانيا التي فتحت الباب وكسرت حاجز الصمت والظلم. فرنسا تقود اليوم جهدًا أوروبيًّا في غاية الأهمية. تصاعد موقف ألمانيا والبرتغال ومالطا وتَتَروّى إيطاليا.
أما بريطانيا، فقد كان حديث وزير خارجيتها في نيويورك الأسبوع الماضي واضحًا، ولو تأخر أكثر من مئة عام، عندما تحدث عن وعد بلفور الذي أعطى اليهود وطنًا في فلسطين، وليس في كل فلسطين.
خلاصة موقف بريطانيا أنها تريد حلّ الدولتين وتعتزم الاعتراف بدولة فلسطين، وتنضم إلى الدول الأوروبية لبناء زخمٍ أوروبي عالمي، ما لم تقم إسرائيل بخطواتٍ ملموسة خلال أسابيع.
سياسات الرئيس الأميركي دفعت بكندا لاتخاذ خطوةٍ جريئةٍ وقويةٍ بإعلان نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر المقبل.
وبالرغم من تأني بعض الدول الأوروبية، إلا أن دولًا غربيةً وشرقيةً وازنةً تطورت مواقفها السياسية نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومنها دول من الحلفاء التقليديين للغرب مثل أستراليا وكوريا الجنوبية.
على الطرف الآخر، لن يبقى سوى الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول التي لا تجرؤ على الخروج من دائرة الخوف والعقاب، والنتيجة ستكون انحيازًا عالميًّا واضحًا للقضية الفلسطينية، وستكون الولايات المتحدة وإسرائيل ضمن الأقلية في مواجهة طوفانٍ عالمي يعترف بفلسطين.
الغرب يتغير اليوم، فماذا عن العرب؟
اعتاد العرب إضاعةَ الفرص، عانوا لعقودٍ من تحالفاتٍ وأوهامٍ ووعودٍ وبطولاتٍ لم تسفر سوى عن مزيدٍ من الضعف والاختلاف والاقتتال.
العرب اليوم، والفلسطينيون خصوصًا، أمام فرصةٍ قد لا تتكرر، فالأوروبيون يتغيرون، وهم الجار الأقرب والأعرف بالمنطقة وخصائصها وأزماتها، بصرف النظر عما إذا كان موقفهم الجديد ناتجًا عن شعورٍ بالذنب التاريخي، أو عن الرغبة في النأي عن السياسات الأميركية، أو التخلص من أكذوبة اللاسامية، أو جراء الوحشية العنصرية الإسرائيلية، فإنهم يتغيرون.
على الفلسطينيين أن يتجاوزوا خلافاتهم ويتحدثوا بصوتٍ واحد وقرارٍ واحد، أن يكونوا بحجم المرحلة التي تواجه فيها قضيتهم العادلة أقسى التحديات، وألا يراهن أيٌّ منهم على أطرافٍ إقليميةٍ تضع مصالحها، لا مصالحهم، أهدافًا لتصرفاتها.
وعلى العرب، ولا سيما الدول القادرة على التأثير، الوقوف إلى جانب أشقائهم الفلسطينيين صفًّا واحدًا، ونبذ أي خلافٍ لتجاوز المرحلة الأخطر في تاريخ المنطقة، والتي عصفت بأمتنا وقضيتنا المركزية.
على العرب أن يدركوا دور الأردن الكبير في هذه المرحلة الدقيقة، وجهود جلالة الملك والدبلوماسية الأردنية على الصعيد الدولي، وموقفه الصلب في مواجهة محاولات التهجير وحماية المقدسات، وكذلك إغاثة أهل غزة، ودعم صمود أهل الضفة الغربية، وفضح العدوان الإسرائيلي وجرائمه. هذه الجهود التي ساهمت بشكلٍ واضحٍ في التحرك الدولي تجاه المنطقة.
تحتاج مصر الشقيقة إلى تضامنٍ عربيٍّ قويٍّ كذلك، وليس غريبًا استهداف الأردن ومصر عبر الحملات الظالمة في الآونة الأخيرة ومحاولات تشويه موقفهما. فهذه الحملات لا تصب سوى في قناة الدعاية الصهيونية المتطرفة، وإن جاءت بألسنةٍ عربية، أصالةً أو وكالةً.
الأردن ومصر جارتا فلسطين وسندها الأول في مواجهة أحلام اليمين الإسرائيلي المتطرف ومخططاته التوسعية والتهجيرية.
صحيح أن الدولة الفلسطينية لن تقوم اليوم وتستقل غدًا، لكنها أصبحت أقرب إلى الواقع من أي وقتٍ مضى، فالأكثرية الساحقة من دول العالم ستعترف بها، رغم صلف الاحتلال وعنصريته، ورغم الدعم الأميركي اللامحدود اليوم، والذي سيغدو محدودًا في المستقبل القريب، لأنه سيكون وحيدًا، ولن تستطيع أي إدارة أميركية أن تبرر موقفها أمام شعبها الذي بدأ يستوعب ما يجري، ولا أمام الرأي العام العالمي الذي بات بأغلبيته الساحقة يدرك حجم الظلم الذي وقع على هذه المنطقة جراء زرع إسرائيل فيها.