رغم التفاهمات الدولية والإقليمية المتسارعة في الأسابيع الأخيرة بشأن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وبعض أطراف محور المقاومة، خصوصًا حزب الله وإيران، تبقى غزة خارج هذه الترتيبات، على نحو يثير التساؤل والقلق. فكيف لحرب بدأت في غزة، وشهدت أعنف موجات القتل والدمار، أن تُستثنى من أي تهدئة أو وقف للعدوان؟
دعونا ، نحلل أسباب غياب غزة عن تفاهمات وقف إطلاق النار، ونتناول الخلفيات السياسية والعسكرية لهذا الاستبعاد، إلى جانب قراءة في التداعيات المتوقعة.
أولًا: تفاهمات جزئية... ولا تشمل غزة
ما يجري اليوم من تحركات دبلوماسية – من واشنطن إلى باريس، ومن الدوحة إلى القاهرة – يصب في إطار احتواء التصعيد الإقليمي، خصوصًا:
وقف النار على الجبهة اللبنانية (حزب الله – إسرائيل).
منع تطور المواجهة المباشرة بين إيران والولايات المتحدة أو إسرائيل.
إلا أن غزة تغيب عن هذه المعادلة، ويتم التعامل معها كـ»جبهة منفصلة»، وهو ما يخالف منطق الأحداث، ويعكس اعتبارات سياسية واستراتيجية أعمق.
ثانيًا: أسباب استثناء غزة
1. التمسك الإسرائيلي بهدف «القضاء على حماس»
الحكومة الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، ما زالت ترفض الدخول في أي تهدئة شاملة تشمل غزة، خشية أن تُفهم كفشل استراتيجي أو انتصار لحركة حماس، خصوصًا بعد ما دفعته إسرائيل من تكلفة بشرية ومادية، وما خسرته من صورة الردع.
2. فصل الجبهات كتكتيك أمريكي – إسرائيلي
الولايات المتحدة تعمل على عزل جبهة غزة عن بقية الجبهات، بهدف:
تطويق الحرب الإقليمية ومنع تمددها.
محاصرة حماس وفرض معادلة «غزة وحدها».
إضعاف موقف محور المقاومة عبر تشتيت أوراقه.
3. الخلاف على مستقبل الحكم في غزة
أحد أسباب تجميد التفاهمات في غزة هو غياب الاتفاق الدولي والإقليمي حول من سيحكم القطاع بعد الحرب:
واشنطن تقترح دورًا للسلطة الفلسطينية في غزة.
إسرائيل ترفض ذلك وتفضل إدارة مدنية بديلة.
حماس ترفض التخلي عن الحكم خارج تسوية شاملة تتضمن إنهاء الاحتلال.
4. ازدواجية في تعاطي العالم مع المأساة الإنسانية
بينما تُبذل جهود حثيثة لإنهاء التوتر شمالًا، يستمر التجاهل الدولي لجرائم الحرب والإبادة في غزة، حيث القتل والتهجير والتجويع باتوا سياسة إسرائيلية معلنة، وسط عجز أو تواطؤ دولي، خصوصًا من بعض القوى الغربية.
ثالثًا: التداعيات المتوقعة لهذا الاستثناء
استثناء غزة من التفاهمات يحمل جملة من المخاطر:
تفاقم الكارثة الإنسانية: مع استمرار الحرب على رفح وانهيار البنية التحتية، يواجه أكثر من مليون فلسطيني خطر المجاعة والأوبئة.
تآكل صورة الردع الإسرائيلي: استمرار الحرب دون حسم عسكري، يقابله صمود المقاومة، ما يضعف الثقة بالقيادة الإسرائيلية ويعمق أزمتها الداخلية.
احتمال انفجار الضفة الغربية: تراكم الغضب الشعبي، وتوسع الاستيطان، وانهيار دور السلطة، كلها عوامل قد تفجر انتفاضة شاملة في الضفة.
تزايد الضغوط الدولية: مع تحركات المحكمة الجنائية الدولية وتوسع رقعة الإدانات، قد تُجبر إسرائيل لاحقًا على الدخول في تفاهمات تشمل غزة، ولكن بكلفة سياسية أكبر.
رابعًا: إلى أين تتجه الأمور؟
المؤشرات الحالية تُظهر أن إدراج غزة في أي وقف لإطلاق النار ما زال مؤجلاً، لكنه وارد في حال:
تغير المزاج السياسي داخل إسرائيل.
تصاعد الضغط الأمريكي والأوروبي.
نضوج تسوية سياسية تضمن تبادل أسرى وخارطة للحكم في القطاع.
حتى ذلك الحين، يبدو أن غزة تُدفع نحو مزيد من الألم، في محاولة فاشلة لتركيعها، أو لتوظيف مأساتها كورقة تفاوض لاحقًا، ضمن حسابات القوة والهيمنة.
واستنادا إلى الحديث عن وقف إطلاق النار دون شمول غزة هو بمثابة تكريس لنهج الانتقائية السياسية في التعامل مع معاناة الفلسطينيين. فغزة، التي نزفت دمًا، ودفعت الثمن الأكبر، لا يمكن أن تُقصى عن أي تسوية عادلة، ما لم يكن الهدف هو استكمال الحرب بوسائل أخرى.
وهنا، لا بد من التأكيد على أن أي تسوية لا تنطلق من وقف شامل لإطلاق النار، وإنهاء الاحتلال، واحترام إرادة الشعب الفلسطيني، تبقى مجرد هدنة هشة، أو صفقة على حساب الدم الفلسطيني.