ملك الفكرة والمبدأ والقيمة

عصف ذهني كبير، ووخز شديد للضمير، وأخلاق عالمية تثبت للأوروبيين ابتعادهم عن سر تفوقهم، وانحدار العالم خلفهم نتيجة اضطراب أولوياتهم، وابتعادهم عن الحقيقة الإنسانية، القائمة على الاحترام المتبادل، والتعاون، وخدمة المستضعفين وحماية حقوقهم.
هذا الحضور العبقري الكبير، الذي يتمتع به جلالة الملك عبدالله الثاني، هو الذي يضفي أهمية استثنائية، مقنعة، جارفة، لا تثبت أمامها الخطابات الأخرى، ولا يملك السامع إلا أن يصفق ويؤيد، ويعترف، بأنه أمام الحقيقة.. وهذا بالضبط ما تخشاه إسرائيل والصهيونية من خلفها.
الوجبة الفكرية، السياسية الكبيرة التي تضمنها خطاب الملك أمام البرلمانيين الأوروبيين أمس الأول، مؤثرة، ومقنعة، و»دش بارد»، لفتح عقول وضمائر صناع القرار الديمقراطي الحر، وإنني أجزم أن كل الرسائل وصلت بدقة عالية وبلا نقص، للحاضرين والغائبين عن اجتماع أمس الأول في ستراسبورغ.
قد يكون خطاب الملك وجبة دسمة جدا، بالنسبة للعقول الصغيرة، التي تعودت على الخواء من الحقيقة وأنصافها وأرباعها، لكنه «ملك» في كل مستويات الملوكية، يتحدث بخطاب عالمي شامل واسع، وبدقة لا تنتهي في توضيح الحقيقة.. فكل معنى أو فكرة وردت في ذلك الخطاب، ارتبطت بقضايا منطقتنا، وبينت سبب الاضطرابات والصراعات، وغياب الأمل وانعدام السلام والأمن، ودون حديث عن ارقام وإحصائيات الكارثة البشرية التي تتوالى فصولها، وكانت وما زالت تهدد العالم، وتشوّه وجهه وماضيه ومستقبله، أوضح بحديث منطقي حق البشر بحياة طبيعية يعيشونها بأمن وسلام، لا يمسخ ماضيهم المشرق، ولا يتجاوز على القيم السماوية العادلة التي جاءت بها الأديان، ولولا هذه المنظومة من القيم البشرية الرفيعة، لم تكن شعوب أوروبا نفسها لتتجاوز كوارثها بعد الحروب العالمية، وان تحقق تقدما واستقرارا ورفاها لنفسها.
مأساة العرب، المتمثلة بالقضية الفلسطينية، والتي تتجلى في غزة، والتي كشفت مقدار الدمار الذي حلّ بالقيم العالمية، وجعلها على هذه الدرجة المخزية من الانحدار، أوضحها جلالته من خلال أمثلة جرت وتجري في غزة، وفي الضفة الغربية..
وقد تحدث خطاب جلالته عن التوترات، بل الحرب الحالية التي اشتعلت في المنطقة، وحذر العالم بأن لا أحد يمكنه أن يعلم أين ستنتهي..
بدأ جلالته حديثه المنطقي بالحديث عن القيم العالمية التي تنهار بتسارع، وبكلمات «محدودة» قليلة تحدث عن الأردن، لكنها كلمات منصفة، ترفع صورة الأردن ودوره العالمي، ومسؤوليته التاريخية في حراسة وترويج واستدامة القيم الجميلة، التي جاءت عبر رسالة المسيح عليه السلام، ثم تبعتها قيم الإسلام الجميلة، وأعاد التأكيد للعالم، بأن هاتين المنظومتين من القيم الفريدة، هما قاموس ودستور السلم والمحبة والعطاء الإنساني.
اختزل جلالة الملك كل السردية البشرية في البقاء على الكوكب، والتمتع بحياة مسالمة آمنة، من خلال كلمة ألقاها بوقت مدته حوالي 14 دقيقة.. وأوصل أهم الرسائل للحضور والعالم كله، بأن عليه أن يتدارك هذا السقوط الأخلاقي، وينقذ ما تبقى من أخلاق، تتبدد بسبب الصراعات المتوحشة واللاأخلاقية، فهي الخطر الحقيقي على العالم، وأعاد جلالته التأكيد على دور الأردن، واستعداده للتعاون مع أوروبا والعالم، من أجل عالم أكثر أمنا وسلامة وعدالة ورفاها.