هناك، في شمال المملكة الأردنية الهاشمية، تقع بلدة أم قيس، المطلة على نهر اليرموك وهضبة الجولان وبحيرة طبريا وكانوا يسمونها "جدارا" قديماً، وكان لموقعها الاستراتيجي هذا نقطة جذب للإمبراطورية الرومانية لتبني فيها مدينة تعد من أجمل المدن، وفي قلب المدينة تقف واحدة من أروع الشواهد على الإبداع الهندسي القديم والمتمثل بنفق القناة المائية الرومانية، الذي يبلغ طوله داخل الموقع الأثري 420 متراً. هذا النفق ليس مجرد ممر تحت الأرض، بل جزء من مشروع ضخم عرف باسم نفق الديكابوليس أو قناة اليرموك، التي كانت تربط مدن الحلف الروماني الممتدة عبر الأردن وسوريا وفلسطين.
وللوقوف على هذا الصرح الأثري الهام، التقت "عمون" بمشرف عمليات وتكنولوجيا المعلومات في الشركة الأردنية لإحياء التراث، أسامة أبو عرقوب، الذي بدأ حديثه عن المدينة قائلاً: "مدينة أم قيس.. هذه المدينة، التي لطالما امتازت بتطورها العمراني والإنساني، اشتهرت بفضل أنظمتها المائية المتقدمة، حتى اعتبرت من أكثر المدن تطوراً في العالم الروماني. النفق داخل الموقع الأثري يمتد لمسافة 420 مترًا، لكنه في الحقيقة جزء من شبكة أوسع تُعرف بـ نفق الديكابوليس أو قناة اليرموك، التي كانت تربط مدن الحلف الروماني المنتشرة في الأردن وسوريا وفلسطين، ضمن شبكة مائية هندسية عبقرية يصل امتدادها الكلي إلى ما بين 140 و160 كيلومتراً". مضيفاً: " نفق القناة المائية الرومانية ليس مجرد سرداب حجري قديم، بل قصة تمتد عبر آلاف السنين، تلخص براعة الرومان في التعامل مع الطبيعة والتضاريس لتأمين مصادر المياه وتطوير مدنه، فما أن تطأ يدك جدران القناة حتى تبدأ مخيلتك بتصور مدى التطور والجمال التي حظيت به مدينة أم قيس"
ويبين أبو عرقوب أن الشركة الأردنية لإحياء التراث، قد تأسست برؤية ملكية سامية تحت مظلة صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وتهدف إلى دمج التنمية المجتمعية بالحفاظ على التراث، من خلال خلق فرص عمل لأبناء المجتمعات المحلية والمتقاعدين العسكريين في المناطق السياحية. وفي نفق أم قيس تحديداً، وفرت الشركة تسع فرص عمل مباشرة، مما حول هذا الموقع التاريخي إلى مشروع حي نابض يستفيد منه الناس كما يستفيد منه التاريخ.
وعن تأهيل النفق للزيارة واللاستكشاف، يوضح أبو عرقوب أن عملية ترميم وتأهيل النفق انطلقت بين عامي 2016 و2018 بإشراف دائرة الآثار العامة، ليعاد افتتاحه رسمياً أمام الزوار في بداية 2019. ويبين أن ارتفاعات النفق تتراوح ما بين 1.65 متراً وقد تصل في بعض النقاط إلى أكثر من 4 أمتار، بينما ينخفض المدخل الرئيسي حوالي 10 إلى 15 متراً تحت سطح الأرض، مما يضيف إلى تجربة دخول النفق شعوراً بالإثارة والاكتشاف.
وبينما يتجول أبو عرقوب مع عدسة "عمون" يبين لنا أن زيارة النفق تبدأ بشراء تذكرة تبلغ كلفتها ديناراً واحداً فقط للأردنيين، وهذا السعر الرمزي بدعم من وزارة السياحة وصندوق الملك عبدالله للتنمية والشركة الأردنية لإحياء التراث، وسبعة دنانير للزوار الأجانب. وأن التذكرة لا تقتصر على دخول النفق فقط، بل تشمل مشاهدة فيلم وثائقي سياحي مدته 9 دقائق يقدم للزوار لمحة غنية عن المعلومات التاريخية والهندسية المرتبطة بالنفق. بعد الفيلم؛ يحصل كل زائر على خوذة واقية، ثم تنطلق الجولة بمجموعات مكونة من 15 شخصاً، يرافقهم دليلان سياحيان، أحدهما في مقدمة المجموعة والآخر في نهايتها، لضمان تجربة آمنة وممتعة.
مضيفاً: "الجولة السياحية تأخذ الزوار في رحلة تستغرق حوالي 15 إلى 17 دقيقة، تعتمد على عدد المشاركين، يتم خلالها استعراض تفاصيل مذهلة عن الهندسة الرومانية: كيف كان الرومان ينقلون المياه من أماكن بعيدة عبر القنوات المائية، وكيف كانوا يتعاملون مع التضاريس الوعرة؛ ففي المناطق الجبلية كانوا يحفرون الأنفاق، وفي الوديان كانوا يبنون الجسور لرفع المياه، لتصل إلى القرى والمدن الرومانية المحيطة. المشي تحت الآبار، والتأمل في جدران النفق المبللة برطوبة الزمن، يمنح الزائر إحساساً استثنائياً بأنه جزء من التاريخ الحي، لا مجرد متفرج عليه"
ويوضح أبو عرقوب أن أم قيس تشهد ذروتها السياحية في فصل الربيع، الذي يبدأ مبكراً في هذه المنطقة الساحرة من منتصف شهر شباط/فبراير حتى أوائل أيار/مايو، حيث تتزين الطبيعة بأبهى حللها، وتكون الأجواء مثالية للنزهات والمغامرات. مع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة في الصيف، تنخفض حركة السياحة الداخلية، لكنها تعود للانتعاش مجدداً في أشهر الشتاء (تشرين الأول/أكتوبر، تشرين الثاني/نوفمبر، كانون الأول/ديسمبر)، قبل أن تغلق أبواب النفق مؤقتاً في كانون الأول/ديسمبر ويناير لأغراض الصيانة السنوية، تمهيدًا لموسم جديد حافل بالزوار.
مؤكداً على أن نفق القناة المائية الرومانية يعتبر واحداً من أهم منتجات أم قيس السياحية، ويصنف تحت مظلة "سياحة الأنفاق"، وهو أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت من "أم قيس" تختار كإحدى أهم الوجهات السياحية في العالم لعام 2022. وما يزيد هذه التجربة تميزاً، أن الأردن يعد أول دولة عربية تقدم هذا المنتج السياحي الفريد، ليثبت أن تاريخه ليس مجرد ماض محفوظ، بل مورد حي يعيد تشكيل حاضره ومستقبله.
مختتماً حديثه: "في أم قيس، لا تكتشف فقط معلماً أثرياً نادراً، بل تلمس بيديك قصة بلد يعرف كيف يكتب مستقبله بأحرف من ماض مجيد، ويقدم للعالم تجربة سياحية استثنائية لا تجدها في أي مكان آخر.. وإذا كنت تبحث عن سحر التاريخ وروح المغامرة ومعنى الانتماء الحقيقي، فإن أم قيس تنتظرك… وأبواب نفقها المفتوحة ستأخذك في رحلة لا تنسى"