الاحتجاجات الجامعية وأثرها على مستقبل القضية الفلسطينية

تعيشُ القضية الفلسطينية اليوم، بعد سبعة أشهرٍ من بداية حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع "غزة" و"الضفة الغربية"، لحظةً تاريخيةً غير مسبوقة تتمثل في الجدل الدائر حول شرعية اسرائيل واجراءات أجهزتها الأمنيّة القمعيّة والتي لم تأخذ القوانين الدولية بعين الاعتبار واعتبرت نفسها خارج إطار المحاسبة، وبعد أن كان تاريخيَّا من المحرمات التحدث في الدول الغربيَّة عن إسرائيل وشرعية احتلالها للأراضي الفلسطينية، ولو بالسر، إلا أنه يتم التحدث عنها اليوم بالعلن وخاصةً بين الفئات العمرية الشبابية وطلاب الجامعات.

 

تعتبرُ الشريحةُ الطلابيةُ في الجامعاتِ الغربيةِ هي الشريحة الأكثرَ ديناميكيةً وقدرةً على بحث قضايا مصيريّة، وذلك بسبب اسلوب التعليم الغربي البعيد عن التلقين والمعتمد على التفكير خارج الصندوق لطرح الافكار المتعلقة بالمواضيع المحلية أو الدولية التي تهمُّ  الشباب والمجتمع، وعدم أخذها على اعتبار أنها من المسلّمات بها، حيث كان لهذه الفئة دورًا تاريخيًا كبيرًا في تغيير الرأي العام المجتمعي، وعلى سبيل المثال: خلال الحرب الامريكية في "فيتنام"، في فترة السبعينات من القرن الماضي، عمَّت المظاهرات الجامعات والشوارع الامريكية ضد الحرب وأصبحت القضية قضية رأيٍ عامٍ بقيادة الشباب المعارض لها، وكان أكبرُها في جامعة "كنت"/ ولاية "اوهايو" وقد أخذت هذه المظاهرات تتوسع وتنتشر، وهنا تدخلت شرطة المدينة للسيطرة عليها ولم تتمكن من قمعها، حيث أمر حاكم ولاية "اوهايو"، الجمهوري المحافظ/ "جيمس رودس" الحرس الوطني للولاية (دستوريًا ضمن صلاحياته) بدخول الحرم الجامعي وقمع المظاهرات مما أدى الى مقتل أربعة طلاب واصابة تسعةٍ آخرين، في سابقةٍ خطيرةٍ من نوعها اعتُبرت قمعًا لحرية التعبير وهي حق كفله الدستور، وانتهاكًا للحرم الجّامعي، ونتيجةً لهذه الصدمة في "الشّارع الأمريكي" توقفت الاعتصامات والمظاهرات ولكنها كانت نقطة تحوُّل في شرعية الحرب في "فيتنام" وتراجع تأييد الشارع لها حتى خروج آخر جنديٍّ أمريكيٍّ من فيتنام في عام 1975.

 

يأتي التهديدُ الأكبر لإسرائيل من هذه الاحتجاجات في أنّ مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتي تأسست عليها الحضارة الغربية بعد الثورة الفرنسية لا تصبّ اليوم في مصلحة "الصهيونية" العالمية وتتعارض معها، وقد أصبح الإعلام الحُر وحرية التعبير خطرًا عليها، لذلك بدأت "النخب الاسرائيلية" تشعر بأن مفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية الحقيقية تصب اليوم في مصلحة الفلسطينيين، وإِن المجتمعات الغربيَّةِ، وخاصةً فئة الشباب، لاحظت اليوم بأن هذا الانحراف الخطير في المفاهيم الغربية والمعايير المزدوجة في التعامل الرسميّ والاعلاميّ بين الحرب في "أوكرانيا" والحرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد أصاب مفاهيمهم التي تربَّوا عليها في الصَّميم.

عرَّت المجازر الاسرائيلية في "قطاع غزة" المفاهيم الامريكية والغربية السائدة وأدت الى تباين الدعم لاسرئيل بين الفئات العمرية "المتوسطة" و"المتقدمة"، ويمكن تحليل ذلك بأن كبار السن يستقون أخبارهم من وسائل الاعلام التقليدية: المرئية والمسموعة والمقروءة والتي ما زال يسيطر عليها "الّلوبي الصّهيوني" بتفرعاته، وتنقل السردية الرسمية الاسرائيلية مؤَيّدةً لإسرائيل، في حين أن فئة الشباب يستقون معلوماتهم من وسائل "التواصل الاجتماعي" والتي تعتبر متحررةً نوعًا ما وتنقل اخبارًا بسقفٍ أعلى لحقيقة ما يحدث في الاراضي المحتلة وخارج السردية الرسمية الاسرائيلية، والتي نجحت بتشكيل  صورةٍ أكثرَ شفافيةٍ وواقعيةٍ عن همجية الهجوم الاسرائيلي على الاراضي الفلسطينية لدى فئة الشباب ومنهم طلاب الجامعات، وهنا فقد تكشفت حقيقةً مهمةً وهي أن ليس جميع اليهود صهاينة وليس جميع الصهاينة يهود.

وبناءً على ما ستؤول إليه الأمور بخصوص المظاهرات الحالية الآخذة بالإتساع لتشملَ أكثر من خمسين جامعة أمريكية واوروبية وقد تنتشر في بقية أنحاء العالم للمطالبة بالحقوق الفلسطينية مما يقلق إسرائيل بشكل خاص والحركة الصهيونية بشكلٍ عام مشاركة شباب اليهود "غير الصهيوني" فيها، وقد اجبرت هذه المخاوف "نتنياهو" على مطالبة الادارة الامريكية ورؤوساء الجامعات بقمع المظاهرات واعتبارها مناهضةً للسّاميّة في محاولة للسيطرة عليها قبل إتساع دائرتها وارتفاع سقف المطالب، وجاء رد السناتور الامريكي اليهودي الليبرالي "بيرني ساندرز" بان انتقاد اسرائيل وبشاعة حربها في غزة ليس معاداة للسامية. وبناء على ما ستأول اليه الامور فانها قد تطرح للنقاش الشرعية الاسرائيليه ومستقبلها كدولة يهوديه او دولة صهيونية وهناك فرق جدري كبير بين الطرحين، واحتمالية جلب المسؤولين الاسرائيليين الى المحاكم الدوليه بسبب المجازر المرتكبه، والتي كانوا يعتبروا انفسهم محميين بالمضلة الأمريكيه امام المحاكم الدوليه.

 

تأتي هذه الاحتجاجات قُبيل الانتخابات الامريكيّة ككابوسٍ للرئيس "جورج بايدن" ويتعامل معها بحذرٍ شديد ولا يمكن اغفالها لأنّ غالبية الشباب المتظاهرين هم من "الليبراليين" الذين يصوتون عادةً للحزب "الديمقراطي" ويشكلّون الفئة الرئيسية للعمل التطوعي اللازم للحملات الانتخابية على المستويات الثلاثة: المحلي، الولاية، الفدرالي، لذلك يسعى الرئيس "بايدن" الى احتواء الأزمة وبأقل الاضرار خوفًا من إغضابهم (الناخبين الشباب)، كونه يُدرك حقيقة أن الطرف الذي يسخطون عليه سوف يخسر الانتخابات.

ومما يقلق "الصهيونية" أن هذه الاحتجاجات التي تدور رحاها في الجامعات النخبة، والشباب المُشارك بها هم نوعين، الأول: من أبناء الاغنياء القادرين على دفع الرسوم الجامعية الباهظة ممن سيكون لهم دورًا مهمًا في صنع القرار المالي والاقتصادي مستقبلًا، والثاني: من الطلاب الأذكياء الذين احتصلوا على بعثاتٍ دراسيةٍ وسيكون لهم دورًا قياديًا في صنع القرار مستقبلًا ويجب احتواءهم وعدم تجاهلهم لأنّ هذه الجامعات هي المكان الذي من المُفترض أن يُولد فيه الجيل القادم من القادة.

إنّ التمادي الاسرائيلي باستخدام الوحشية المفرطة في "قطاع غزة" أدى الى تحوّل الرأي العام العالمي من التعاطف وتصديق سردية المضلومية الصهيونية، الى التعاطف مع القضية الفلسطينية ومطالبها العادلة، اضافةً الى أنّ الاحتجاجات الشبابيّة في مركز ثقل الدعم الاسرائيلي الغربي أدت الى التشكيك بالشرعية الإسرائيلية و"فتح العيون" على عدالة مطالب الشعب الفلسطيني، والتي سيكون لها تأثيرًا في المستقبل على قدرة اسرائيل القمعيَّة واستمرار سيطرتها على شعبٍ يُطالب بحقّه الشَّرعي في انشاء دولةٍ مستقلةٍ ذات سيادة.

 

خبير ومحلل استراتيجي